المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن من أعظم الأعمال أجراً، وأكثرها مرضاة لله ، تلك التي يتعدى نفعها إلى الآخرين، وذلك لأن نفعها وأجرها وثوابها لا يقتصر على العامل وحده، بل يمتد إلى غيره من الناس، حتى الحيوان، فيكون النفع عاماً للجميع.
ومن أعظم الأعمال الصالحة نفعاً، تلك التي يأتيك أجرها وأنت في قبرك وحيداً فريداً، ولذا يجدر بالمسلم أن يسعى جاهداً لترك أثر قبل رحيله من هذه الدنيا ينتفع به الناس من بعده، وينتفع به هو في قبره وآخرته، وصدق الله في قوله: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
وكن رجلاً إن أتوا بعده
يقولون مر وهذا الأثر
وقد حرصت على تناول جوانب من هذا الموضوع الهام، وأسأل الله التوفيق والسداد.
محمد صالح المنجد
الفرق بين النفع المتعدي والنفع القاصر
النفع المتعدي: هو العمل الذي يصل نفعه للآخرين سواءً كان هذا النفع أخروياً : كالتعليم والدعوة إلى الله تعالى، أو دنيوياً : كقضاء الحوائج، ونصرة المظلوم وغير ذلك.
أما النفع القاصر: فهو العمل الذي يقتصر نفعه وثوابه على فاعله فقط، كالصوم، والاعتكاف وغيرهما.
أيهما أفضل النفع المتعدي أم النفع القاصر؟
نص فقهاء الشريعة على أن النفع المتعدي للغير أولى من النفع القاصر على النفس.
ولذا قال بعضهم: إن أفضل العبادات أكثرها نفعاً، وذلك لكثرة ما ورد في الكتاب والسنة من نصوص دالة على فضل الاشتغال بمصالح الناس، والسعي الحثيث لنفعهم وقضاء حوائجهم، ومن أبرزها ما يلي:
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» ( ).
وقال لعلي بن أبي طالب : «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم»( ).
عن أبي هريرة عن رسول الله قال : «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً»( ).
كما أن صاحب العباد القاصرة على النفس إذا مات انقطع عمله، أما صاحب النفع المتعدي فلا ينقطع عمله بموته.
وقد بعث الله الأنبياء بالإحسان إلى الخلق، وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، ولم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس، ولهذا أنكر النبي على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ( ).
وهذا التفضيل إنما هو باعتبار الجنس، ولا يعني ذلك أن كل عمل متعدي النفع أفضل من كل عمل قاصر، بل الصلاة والصيام والحج عبادات قاصرة – في الأصل – ومع ذلك هي من أركان الإسلام ومبانيه العظام.
ولذا قال بعض العلماء : (أفضل العبادات: العمل على مرضات الرب في كل وقت مما هو مقتضي ذلك الوقت ووظيفته)( ).
نفع الناس من صفات الأنبياء والرسل:
إن النفع المتعدي هو طريق الأنبياء والرسل، ووظيفة من سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم، فهم أنفع الناس للناس، وهم الذين يهدون الناس إلى الله تعالى، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وذلك بدعوتهم إلى توحيده، الذي لا عز ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا به.
ونفع الأنبياء للناس لا يشمل أمور الآخرة فقط، بل كذلك أمور الدنيا: فيوسف تولى الخزائن لعزيز مصر : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فكان في ذلك الخير والنفع والنجاة من سنوات القحط والجذب التي أصابت البلاد.
وموسى لما ورد ماء مدين وجد عليه جماعة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما.
-ونبينا كانت خديجة رضي الله عنها تقول في وصفه : (كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)( ).
وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون:
-فأبو بكر الصديق كان يصل الرحم ويساعد المحتاجين، ولذلك لما أراد قومه أن يخرجوه قال له ابن الدغنة المشرك : (إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)( ).
-وعمر بن الخطاب كان يتعاهد الأرامل، ويسقي لهن الماء ليلاً.
-وعلى بن الحسين رحمه الله كان يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في ظلام الليل، فلما مات فقدوا ذلك، قال ابن إسحاق : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم في الليل ( ).
وهكذا الصالحون من هذه الأمة إذا وجدوا فرصة لنفع الخلق، فرحوا بها فرحاً شديداً، وعدوا ذلك من أفضل أيامهم!.
-كان سفيان الثوري رحمه الله ينشرح إذا رأى سائلاً على بابه! ويقول: (مرحباً بمن جاء يغسل ذنوبي).
- وكان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: (نعم السائلون، يحملون أزوادنا إلى الآخرة، بغير أجرة حتى يضعوها في الميزان).
عظم أجر النفع المتعدي من الكتاب والسنة:
1- قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3).
قال السعدي رحمه الله: أقسم تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر، إلا من اتصف بأربع صفات:
- الإيمان بما أمر الله تعالى بالإيمان به.
-العمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة.
- التواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي : يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه.
- التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم ( ).
إذا فنجاة الإنسان من الخسران موقوفة على سعيه في نفع الآخرين ونصحهم وتوصيتهم بالحق والصبر.
2- أخبر النبي أن خير الناس أنفعهم للناس عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس»( ).
وقال المناوي رحمه الله : (خير الناس أنفعهم للناس) بالإحسان إليهم بماله وجاهه فإنهم عباد الله، وأحبهم إليه أنفعهم للناس أي : أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها، أو نقمة يدفعها عنهم ديناً أو دنيا، ومنافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً( )، قال ابن القيم رحمه الله : (وقد دل العقل والنفع والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله، واستدفعت نقمه، بمصل طاعته والإحسان إلى خلقه)( ).
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله عز وجل قلبه أمنا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له، أثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام» ( ).
قوله : «ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب غلى من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهراً»، لأن الاعتكاف نفعه قاصر على العبد، أما المشي في حاجة الناس فنفعه متعدٍ للغير، وهو أنفع للعباد قطعا.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هل يجوز للمعتكف الاتصال بالهاتف لقضاء حوائج المسلمين؟
قال : نعم يجوز للمعتكف أن يتصل بالهاتف لقضاء بعض حوائج المسلمين، إذا كان الهاتف في المسجد الذي هو معتكف فيه ن لأنه لم يخرج من المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فلا يخرج لذلك، وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنياً بها فلا يعتكف، لأن قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف، لأن نفعها متعد، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته ( ).
4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال النبي : «لا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة»( ).
وفي لفظ له «ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقه، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقه»( ).
عن أبي الدرداء أن رجلا مر به وهو يغرس غرساً بدمشق، فقال له : أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله ؟ ! فقال : لا تعجل على، سمعت رسول الله يقول : «من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله عز وجل إلا كان له صدقة»( ).
قال النووي رحمه الله: (في هذه الأحاديث فضيلة الغرس، وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمر ما دام الغرس والزرع، وما تولد منه إلى يوم القيامة. وفي هذه الأحاديث أيضا أن الإنسان يثاب على ما سرق من ماله أو أتلفته دابة أو طائر ونحوهما. وقوله : «ولا يرزؤه» أي ينقصه ويأخذ منه)( ).
ولذلك ذهب بعض العلماء (وصححه النووي رحمه الله) إلى تفضيل العمل بالزراعة على العمل بالصناعة والتجارة وذلك لعموم نفع الزراعة، حتى أنها تشمل نفع الناس والدواب والطيور والحشرات ( ).
5- كل معروف يبذله الإنسان للناس فهو صدقة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي قال : «كل معروف صدقة»( ).
عن أبي ذر قال : قال رسول الله : «على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه، قلت : يا رسول الله من أين أتصدق وليس لنا أموال؟ قال: إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها،وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر : كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول الله : أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحسب به؟ قلت : نعم. قال : فأنت خلقته؟ قال : بل الله خلقه، قال فأنت هديته ؟ قال : بل الله هداه، قال: أنت ترزقه؟ قال : بل الله كان يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر»( ).
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقه، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة»( ).
6- والسعي فيما ينفع الناس من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار:
- عن أبي ذر قال : سألت النبي أي العمل أفضل؟ قال : «إيمان بالله وجهاد في سبيله، قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال : فإن لم أفعل ؟ قال : تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك»( ).
- وعن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار؟
قال: «الإيمان بالله».
قلت : يا رسول الله إن مع الإيمان عملاً.
قال : «يرضخ مما رزقه الله» [الرضخ: هو العطاء].
قلت : يا رسول الله أرأيت إن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ به؟
قال : «يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر»
قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان عيباً لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟
قال : «يصنع لأخرق». [وهو الجاهل الذي لا صنعة له يكتسب منها].
قلت : أرأيت إن كان أخرق لا يستطيع أن يصنع شيئاً؟
قال : «يعين مظلوماً».
قلت : أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً؟
قال : «ما تريد أن تترك في صاحبك من خير، يمسك الأذى عن الناس».
فقلت : يا رسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنة ؟
قال : «ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء، إلا أخذت بيده حتى تدخل الجنة»( ).
- عن عمر أن النبي سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : «إدخالك السرور على مؤمن، أشبعت جوعته، أو كسوت عريه، أو قضيت له حاجة»( ).
وأمر النبي من استطاع أن ينفع أخاه المسلم بأي وجه من وجوه النفع فلينفعه، فقال : «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل»( ).
وأوجه النفع كثيرة جدا، ولكما كان العمل أنفع للعباد كان أفضل عند الله تعالى، لذلك ينبغي على المؤمن أن يحرص على الأعمال التي يعم نفعها ويكثر.
نماذج للأعمال المتعدية النفع
الدعوة إلى الله:
إن الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال نفعاً للآخرين، فليس هناك نفع متعد كالدعوة إلى توحيد الله، وحمل هم الدين وتبليغه، ولذلك منح الله هذه الوظيفة لأفضل الخلق من بني آدم، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك من سار على دربهم.
قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
قال ابن كثير رحمه الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا : أي دعا عباد الله إليه.
وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ : أي هو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتون، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد ( ).
فأهل الدعوة إلى الله لم يرضوا لأنفسهم أن يروا الغرقى فلا يقذوهم، ولا فقدوا إنسانيتهم فتركوا الحيارى يحيدون عن الطريق بلا إرشاد، ولم يدفنوا العلم ولا أوقفوه على أنفسهم، بل ألقوا دثر الراحة ونفضوا غبار الكسل عن أنفسهم، وانطلقوا في خضهم الحياة حاملين النور للآخرين، فعلموا الجاهل، ونبهوا الغافل، وهدوا الضال بإذن الله وتوفيقه.
فأفضل النفع للآخرين إخراجهم من ظلمات الكفر والبدع والمعاصي إلى نور التوحيد والسنة والطاعة.
قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الإنعام:122].
تعليم الناس العلم النافع:
ومن المجالات العظيمة للنفع المتعدي تعليم الناس الخير، وتعريفهم بالحلال والحرام، ولذلك وردت أدلة كثيرة في فضل تعليم الناس:
عن معاذ بن أنس عن النبي قال : «من عمل علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل»( ).
عن عثمان عن النبي قال : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى وبقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، والدعوة إلى الله تقع بأمور شتى منها تعليم القرآن وهو أشرفها ( ).
عن أبي موسى عن النبي قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ( ).
وقد ألهم الله تعالى أنواع الحيوان الاستغفار للعالم:
فعن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله : «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» ( ).
وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله يقول : «من سلك طريقاً يبتغي فيه علما سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافرٍ»( ).
لماذا تستغفر الحيوانات للعالم؟
أولاً: كرامة من الله تعالى له على تعليمه الناس شريعة الله تعالى.
ثانيا: أن نفع العالم قد تعدي حتى انتفعت به الحيوانات، فإنه يأمر بالإحسان إليها: «فإذا قتلتم، فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة»( ). ويبين ما يتعلق بها من أحكام، فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها.
«وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»( ).
قال القاضي رحمه الله : شبه العالم بالقمر والعابد بالكواكب، لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى من العابد، ونور العالم يتعدى إلى غيره ( ).
أيهما أفضل العبادة أم الاشتغال بالعم والتعليم؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : الإنصاف أن يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين : من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي، ومن وجد في نفسه قصوراً فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول وإعراضه به عن الثاني والله الموفق ( ).
قال النووي رحمه الله: يجزي [يعني للمعتكف] أن يقرأ القرآن ويقرئه غيره، وأن يتعلم العلم ويعلمه غيره، ولا كراهة في ذلك في حال الاعتكاف. قال الشافعي وأصحابنا: وذلك أفضل من صلاة النافلة، لأن الاشتغال بالعلم فرض كفاية فهو أفضل من النفل، ولأنه مصحح للصلاة وغيرها من العبادات، ولأن نفعه متعد إلى الناس، وقد تظاهرت الأحاديث بتفضيل الاشتغال بالعلم على الاشتغال بصلاة النافلة.
وكان الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يترك صيام النافلة في بعض الأيام ويقول: لأنه يضعف عن القيام بحوائج الناس.
الجهاد في سبيل الله.
عن أبي هريرة قال : قيل للنبي ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : «لا تستطيعوه» قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه» وقال في الثالثة : «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد إلى أهله»( ).
عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله : أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله : «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا : ثم من ؟ قال : «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره»( ).
وإنما كان المجاهد أفضل من المؤمن المعتزل للناس، لأنه بذل نفسه وماله في سبيل الله، مع ما في جهاده من النفع المتعدي، فإنه بالجهاد يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ويذل الكفر وأهله، وتحمي حوزة الدين، وتحفظ حرمات المسلمين، وغير ذلك من المصالح العظيمة التي تحصل بالجهاد.
ولذلك كان من أسباب خيرية هذه الأمة على ما سواها من الأمم أنها أنفع الأمم لغيرها، فإن هذه الأمة تنفع غيرها من الأمم بأنفع الأشياء على سبيل الإطلاق، ألا وهو السعي في هدايتها إلى الإسلام، ثم ما يترتب على ذلك من دخولهم الجنة، ونجاتهم من النار.
عن أبي هريرة : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال : خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام ( ).
وقال ابن حجر رحمه الله: (خير الناس للناس) أي : أنفعهم لهم، وإنما كان ذلك لكونهم كانوا سببا في إسلامهم ( ).
ونقل ابن حجر رحمه الله عن ابن الجوزي رحمه الله قوله : معناه أنهم أسرور وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعاً، فدخلوا الجنة ( ).
الحراسة في سبيل الله:
ومما يتعدى نفعه الحراسة في سبيل الله : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : «ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوف لعلة أن لا يرجع إلى أهله» ( ).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله»( ).
«عينان لا تمسهما النار» أي لا تمس صاحبهما، فعبر بالجزء عن الجملة ( ).
قصة عباد بن بشر في حراسة المسلمين:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال : خرجنا مع رسول الله إلى نجد، فغشينا داراً من دور المشركين، قال : فأصبنا امرأة رجل منهم، قال: ثم انصرف رسول الله راجعاً، وجاء صاحبها وكان غائباً فذكر له مصابها فحلف لا يرجع حتى يُهريق في أصحاب رسول الله دماً، قال : فلما كان رسول الله ببعض الطريق نزل في شعب من الشعاب وقال : «من رجلان يكلانا في ليلتنا هذه من عدونا» قال : فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار نحن نكلؤك يا رسول الله، قال : فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري : أتكفيني أول الليل وأكفيك آخره أم تكفيني آخره وأكفيك أوله ؟ قال : فقال المهاجري بل أكفني أوله وأكفيك آخره فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، قال : فافتتح سورة من القرآن فبينا هو يقرأ فيها إذ جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل قائماً عرف أنه ربيئة القوم - أي حارسهم ( )- فينتزع له بسهم فيضعه فيه، قال : فينزعه فيضعه وهو قائم يقرا في السورة التي هو فيها ولم يتحرك كراهية أن يقطعها، قال : ثم عاد له زوج المرأة بسهم آخر فوضعه فيه فانتزعه فوضعه وهو قائم يصلي ولم يتحرك كراهية أن يقطعها، قال ثم عاد له زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه فانتزعه فوضعه ثم ركع فسجد ثم قال لصاحبه : أقعد فقد أوتيت، قال : فجلس المهاجري فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به قال : وإذا الأنصاري يموج دماً من رميات صاحب المرأة، قال فقال له أخوه المهاجري يغفر الله لك ألا كنت آذنتني أول ما رماك ؟ قال، فقال : كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها فكرهت أن أقطعها وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعه ( ).
بناء المساجد:
- قال الله تعالى : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
- عن عثمان بن عفان قال سمعت النبي يقول : «من بني مسجداً يبتغي به وجه الله بني الله له مثله في الجنة» ( ).
- وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحاً تركه، ومصحفاً ورثة، أو مسجداً بناه، أو بيتا لابن السبي بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحة وحياته يلحقه من بعد موته» ( ).
- وكان رسول الله يتعاون مع أصحابه في بناء المسجد النبوي فعن أبي سعيد في ذكر بناء المسجد قال : كنا نحمل لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي فينفض التراب عنه ويقول : «ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» قال يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن ( ).
النصيحة:
عن تميم الداري أن النبي قال : «الدين النصيحة» قلنا : لمن؟ قال : «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ( ).
قال ابن حجر رحمه الله : وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها إنها أحد أرباع الدين ( ). وقال النووي رحمه الله : هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام. وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوا، بل المدار على هذا وحده... والله أعلم ( ).
والنصيحة لله: وصفه بما هو أهل له، والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معصيته والجهاد في رد العاصين إليه.
والنصيحة لكتاب الله: تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانية، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه.
والنصيحة لرسوله : تعظيمه، ونصره حياً وميتاً، وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، ومحبته ومحبة أتباعه.
والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن.
والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات وقد كان في السلف من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه.
الإصلاح بين الناس:
قال الله تعالى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
قال السعدي رحمه الله أي : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.
ثم استثنى تعالى فقال : مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي : «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»( ).
أَوْ مَعْرُوفٍ وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي.
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] وقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:19].
وقال تعالى : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء :128]، والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لابد أن يصلح الله سعيه وعمله.
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصودة كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير كما دل على ذلك الاستثناء [وذلك لما فيها من النفع المتعدي] ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص ولهذا قال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا( ) [النساء:114].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «إن أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»( ).
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين»( ).
ومما لاشك فيه أن منزلة الصيام والصلاة عظيمة، فهما ركنان من أركان الإسلام، والمراد هنا : صلاة النافلة وصيام النافلة، إذا إصلاح ذات البين خير من صلاة وصيام النوافل، لأن أجرهما وثوابهما محصور على صاحبه بينما إصلاح ذات البين : نفع متعد إلى الآخرين.
فمن يشغل وقته بإصلاح ذات البين أفضل ممن يشغل وقته بنوافل الصيام والصلاة.
الشفاعة ونصرة المظلومين:
فيتوسط المسلم لأخيه في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا من نفع المسلمين بالجاه.
عن أبي موسى قال : كان رسول لله إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال : «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء »( ).
قال النووي رحمة الله: (فيه: استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة، سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما، أم إلى واحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم، أو إسقاط تعزير، أو في تخليص عطاء المحتاج، أو نحو ذلك؛ وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل، أو إبطال حق، ونحو ذلك؛ فهي حرام)( ).
ودل قوله : «ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته( ).
وكان النبي يبذل جاهه لمنفعة المسلمين ومصلحتهم؛ فكان يشفع لهم حتى في أمورهم الخاصة، فلما عتقت بريرة رضي الله عنها وكان زوجها عبداً اختارت فسخ النكاح، فحزن عليها زوجها، وكان يحبها كثيراً، حتى كان يمشي خلفها في طرقات المدينة وهو يبكي، وسأل النبي أن يشفع له عندها حتى ترجع إليه ففعل النبي وقال لها : «لو راجعتيه فإنه أبو ولدك». قالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: «لا، إنما أنا شافع». قالت: لا حاجة لي فيه ( ).
قضاء حوائج الناس والقيام بأعمالهم وإغاثتهم عند نزول الكرب بهم:
إن خدمة الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، والله يرحم من عباده الرحماء، ولله أقوام يختصهم بالنعم لمنافع العباد، وجزاء التفريج تفريج كربات، وكشف غموم في الآخرة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»( ). زاد أبو نعيم : «ومن مشى مع مظلوم يعينه ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام» ( ).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون آخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة»( ).
قال النووي - رحمه الله: (هو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب... ومعنى (نَفَّس الكربة): أزالها، وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مالٍ أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك)( ).
وببذل المعروف والإحسان تحسن الخاتمة، وتصرف ميتة السوء:
فعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر»( ).
والله تعالى ينعم على العبد لقيامه بمصالح المسلمين وحوائجهم فإذا لم يقم بها سلبه الله هذه النعم.
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله : «إن لله عبادا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم»( ).
قال ابن عباس رضي الله عنهما : (من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة)( ).
وكان السلف لا يرون لأنفسهم فضلاً على صاحب الحاجة، بل يرون الفضل لصاحب الحاجة الذي علقها بهم، حتى كأن صاحب الحاجة هو المحسن إليهم.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: (ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إلى إرادة التسليم علي، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله. قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي)( ).
عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال : (ذكروا أن رجلاً أتى رجلاً في حاجة له، فقال : خصصتني بحاجتك، جزاك الله خيراً. وشكر له).
وقيل لأبي عقيل البليغ : كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: (رأيت رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر! وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة!)
يقول ابن القيم رحمه الله في وصف ابن تيمية رحمه الله : (كان شيخ الإسلام يسعى سعياً شديداً لقضاء حوائج الناس).
ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم.
يقول حكيم بن حزام : (ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب)( ).
عقوبة من تبرم من قضاء حاجات الناس بعد أن جعل الله حوائجهم إليه أو بسببه أو تحت إمرته وإدارته:
من ذلك : ما جاء من تحذير مبين بزوال نعمة المتبرمين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم، قد عرض تلك النعمة للزوال»( ).
ومعنى (فتبرم) كما جاء في مختار الصحاح تبرم به : أي سئمه وأمله وأضجره( ).
وإذا التبرم هو : التأفف والسأم والتضجر وشدة الغم وضيق النفس.
والشخص المتبرم المقصود هنا في الحديث : كل صاحب نعمة أدت إلى أن يؤول الناس إليه بسببها، كالعالم والمفتي والداعية والمربي والأمير والقاضي، والمسئول والطبيب والمحامي والتاجر والغني، ونحوهم من أفراد المجتمع ممن أنعم الله عليهم بنعم جعلت لهم مكانة بين الناس أو سلطة في المجتمع، أو فيها نفع متعد لغيرهم من الناس.
فإن مثل هؤلاء إذا تذمروا وتأففوا، وضاقوا ذراعاً بالخلق بعد أن صارت حاجة الناس إليهم، وتكبروا عليهم وأعرضوا عنهم وسئموا ذلك وتضجروا منه، وأصابهم بسبب ذلك الغم وضيق النفس، فإنهم معرضون لزوال هذا الفضل عنهم كما في الحديث السابق.
والتحذير الوارد في الأحاديث المتقدمة يدخل في عموم قول الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53] وقوله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
قال البغوي رحمه الله في تفسير الآية الأولى : (أراد أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم فسلبهم النعمة)( ).
وقال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
قال القرطبي رحمه الله (وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره وكان الله على ذلك قديرا)( ).
إن هذا الحديث برواياته تذكرة وتحذير لكل من أنعم الله عليه وأولاه من المكانة المادية أو المعنوية، ما جعله سببا لقضاء حوائج غيره، ثم لم يقم بها كما يحب الله ويرضى.
لذا فإنه يجب عليه عدة أمور:
أولاً: أن يعلم بأن هذه النعمة، والمنصب، والعلم، والمكانة التي بوأه الله إياها، ابتلاء من الله ليرى ماذا يصنع، لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان. قال : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2-3] فإما أن يؤدي ما عليه من واجب الشكر أو أن يكفر ويجحد.
ثانياً: أن المرء مهما علا وارتفع فإنه قليل بنفسه، كثير بإخوانه، وأن تبرُّمه من أفراد مجتمعه فيه من تشتيت للأواصر وإيغار للصدور ما لا يخفي ضرره العاجل والآجل، فإن له في نفس الوقت ذلك الأثر السيئ والعكسي بتعرضه لخطر زوال النعمة عنه، وبالتالي شماتة الأعداء به.
ثالثاً: احتساب الأجر يوم العرض على الله:
فكما حذرنا النبي من زوال النعمة، فقد رغَّبنا في فضل قضاء حوائج الناس والوقوف عليها والسعي من أجلها، كما ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي هريرة قال : قال رسول الله : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العقد ما كان العبد في عون أخيه»( ).
وأفضل الناس من بين الورى رجل
تقضي على يده للناس حاجاتُ
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
ما دمت مقتدراً فالسعد تاراتُ
واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجاتُ
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
وليس على العبد أضر من ملله من نعم الله. فإنه لا يراها نعمة، ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة. هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم، ولا يشعرون بأن ما فتح الله به عليهم نعمة، وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلماً. فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، فليس للنعم أعدى من نفس العبد، فهو مع عدوه ظهير على نفسه، فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها، فهو الذي مكَّنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ، فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق، وكان غايته معاتبه الأقدار:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدر( )
نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكوْر، ومن النقصان بعد الزيادة.
فلنتدارك النعم قبل فوات الأوان، بتقوى الله وحسن العمل ومراعاة الخلق، واستدراك ما فات من التقصير في حق الله وحق الناس والأهل والإخوان، والحذر من الإعراض عنهم والاغترار بالنفس التي اكتست برداء الكبرياء، الذي لا ينبغي إلا للخالق العظيم كما جاء في الحديث القدسي : قال الله تعالى : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار»( ).
إن دوام الحال من المحال، وفرق بين الصعود والهبوط، فاحذر الثاني، فما يكون إلا بما اقترفت يداك وما ربك بظلام للعبيد.
قال تعالى : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
والعرب يقولون : (الدهر يومان يوم لك ويوم عليك) فمعناها : أن هذا التغير لابد منه، إذ من سنة الله أنه لا يمكن أن تستمر الحياة على وتيرة واحدة.
ما بين غفوة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال
وقال الآخر:
هكذا الدهر حالة ثم ضد
ما لحال مع الزمان بقاء
فادع الله تعالى أن يصرف عنك سوء القضاء، وتحوَّل الحال من الأحسن إلى الأسوأ؛ فإن مما ثبت في السنة ما جاء في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان من دعاء رسول الله : «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحويل عافيتك، وفُجَاءة نقمتك، وجميع سخطك»( ).
الصدقة وبذل المال إلى الفقراء والمحتاجين سبب لتعظيم الأجر ومضاعفة الثواب:
يربي الله الصدقات، ويضاعف لأصحابها المثوبات، ويعلي الدرجات... بهذا تواترت النصوص وعليه تظافرت؛
فمن الآيات الكريمات الدالة على أن الصدقة أضعاف مضاعفة وعند الله مزيد:
قوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18].
وقوله تعالى : من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[البقرة: 245].
قال ابن الجوزي رحمه الله مبيناً علة تسمية الله للصدقة قرضاً: (سماه الله قرضاً تأكيداً لاستحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرضاً إلا والعوض مستحق به)( ).
وقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].
ومن الأحاديث الدالة على عظم أجر الصدقة:
عن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله يقول : «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه. قال : «ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر – أو كلمة نحوها-»( ).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله»( ).
والصدقة تحفظ البدن وتدفع عن صاحبها البلايا والأمراض:
ويدل لذلك قوله : «داووا مرضاكم بالصدقة»( ).
ولما تقرح وجه أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك قريباً من سنة سأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك، ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بنيت على باب داره وصب فيها الماء فشرب منها الناس، فما مر عليه أسبوع إلا وأظهر الله شفاءه وزالت تلك القروح وعاد وجهه إلى أحسن ما كان.
والأمر كما قال المناوي رحمه الله: (وقد جرب ذلك – أي التداوي بالصدقة – فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية، ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه ( )؛ وليس هذا فحسب، بل إن بعض السلف كانوا يرون أن الصدقة تدفع عن صاحبها الآفات والشدائد ولو كان ظالماً، قال إبراهيم النخعي : (كانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل الظلوم)( ).
قصة معاصرة يتبين فيها شيء من عجائب الصدقة:
أبو سارة مهندس ميكانيكي حصل على وظيفة بمرتب شهري 9 آلاف ريال، ولكنه رغم أن راتبه عال ولديه بيت ملك لاحظ أن الراتب يذهب بسرعة ولا يعلم كيف.
يقول : سبحان الله؛ والله لا أدري أين يذهب هذا الراتب، وكل شهر أقول الآن سأبدأ التوفير واكتشف أنه يذهب، إلى أن نصحني أحد الأصدقاء بتخصيص مبلغ بسيط من راتبي للصدقة، وبالفعل خصصت مبلغ 500 ريال من الراتب للصدقة، والله من أول شهر بقي 2000 ريال بالرغم أن الفواتير والمصاريف نفسها لم تتغير، فرحت كثيراً وقلت سأزيد التخصيص من 500 إلى 900 ريال وبعد مضي خمسة أشهر أتاني خبر بأنه سوف يتم زيادة راتبي والحمد لله هذا فضل من ربي عاجز عن شكره؛ فبفضل الصدقة ألاحظ البركة في مالي وأهلي وجميع أموري، وجربوا فستجدون ما أقول لكم وأكثر.
وعجائب الصدقة لا تنقضي وصدق رسول الله إذ يقول : «ما نقص مال عبد من صدقة» ( ) بل يبارك له فيه بما يجبر نقصه الحسي.
القرض الحسن، وإنظار المعسر:
عن ابن مسعود أن النبي قال: «ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة»( ).
عن حذيفة قال: قال رسول الله : «تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا : أعملت من الخير شيئاً ؟ قال : لا. قالوا : تذكر. قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوَّزوا عن الموسر، قال : قال الله عز وجل: تجوزوا عنه»( ).
إطعام الطعام:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي : أي الإسلام خير؟ قال : «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»( ).
وعن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله المدينة انجفل [أي أسرعوا] الناس إليه، وقيل : قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله عرفت أن وجهه ليس كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال : «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»( ).
عن أبي موسى قال : قال رسول الله : «فكوا العاني - يعني الأسير - وأطعموا الجائع وعودوا المريض»( ).
وعنه قال: قال النبي : «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم»( ).
قوله : «إذا أرملوا» أي : فني زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة، وفي الحديث فضيلة الإيثار والمواساة، واستحباب خلط الزاد في السفر وفي الإقامة أيضا. والله أعلم ( ).
الإحسان إلى الأيتام:
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء: 36].
كافل اليتيم في الجنة مع النبي محمد :
عن سهل بن سعد عن النبي قال : «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى ( ).
قال ابن بطال رحمه الله: (حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به ليكون في الجنة رفيقاً للنبي ولجماعة النبيين والمرسلين)( ).
وقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن يحسنوا إلى اليتامى؛ حيث قال سبحانه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة: 83] ونحن أحق منهم بهذا الفضل.
فمن أراد أن يلين قلبه ويدرك حاجته، فليرحم اليتيم، وليمسح رأسه، وليطعمه من طعامه.
فعن أبي الدرداء قال: أتى النبي رجل يشكو قسوة قلبه، قال: «أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟! ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، يلين قلبك وتدرك حاجتك»( ).
قال أحد السلف : (كنت في بداية أمري مكباً على المعاصي، وشرب الخمر، فظفرت يوماً بصبي يتيم فقير، فأخذته وأحسنت إليه، وأطعمته، وكسوته، وأدخلته الحمام، وأزلت شعثه، وأكرمته كما يكرم الرجل ولده بل أكثر، فبت ليلة بعد ذلك، فرأيت في النوم أن القيامة قد قامت، ودعيت إلى الحساب، وأمر بي إلى الناس لسوء ما كنت عليه من المعاصي، فسحبتني الزبانية ليمضوا بي إلى النار، وأنا بين أيديهم حقير ذليل يجرونني سحباً إلى النار، وإذا بذلك اليتيم قد اعترضني بالطريق وقال: خلوا عنه يا ملائكة ربي حتى أشفع له إلى ربي، فإنه قد أحسن إليَّ وأكرمني. فقالت الملائكة : إنا لم نؤمر بذلك. وإذا النداء من قبل الله تعالى يقول: خلوا عنه فقد وهبت له ما كان منه بشفاعة اليتيم وإحسانه إليه. قال: فاستيقظت وتبت إلى الله وبذلت جهدي في إيصال الرحمة إلى الأيتام)( ).
السعي على الأرملة والمسكين:
عن أبي هريرة قال : قال النبي : «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار»( ).
قوله : «الساعي على الأرملة»: قال النووي رحمه الله: (المراد بالساعي الكاسب لهما العامل لمؤنتهما، والأرملة من لا زوج لها سواء تزوجت قبل ذلك أم لا). وقيل: التي فارقها زوجها. قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج.
«والمسكين» هو من لا شيء له، وقيل: من له بعض الشيء، وقد يقع على الضعيف، وفي معناه الفقير؛ بل بالأولى عند بعضهم، «كالمجاهد في سبيل الله»؛ أي ثواب القائم بأمرهما وإصلاح شأنهما والإنفاق عليهما كثواب الغازي في جهاد؛ فإن المال شقيق الروح، وفي بذله مخالفة النفس ومطالبة رضا الرب ( ).
الإحسان إلى الجار:
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء: 36].
ففي هذه الآية قرن الله حق الجار بعبادته وبالإحسان إلى الوالدين واليتامى والأرحام.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»( ).
عن أبي هريرة عن رسول الله قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»( ).
وفي رواية: «فليحسن إلى جاره»( ).
عن سعيد عن أبي شريح أن النبي قال : «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه»( ).
[جمع بائقة وهي الظلم والشر والشيء المهلك].
ومن الإحسان إلى الجار: تعزيته عند المصيبة، وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، وغير ذلك من ضروب الإحسان.
عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ أهديتم لجارنا اليهودي ؟ سمعت رسول الله يقول : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»( ).
الإنفاق على الزوجة والأولاد:
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك»( ).
وعن كعب بن عجزة قال : مر على النبي رجل، فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه، فقالوا : يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله. فقال رسول الله : «إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان»( ).
صلة الرحم:
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ من القطيعة. قال : نعم؛ أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى. قال : فذاك لك. ثم قال رسول الله : اقرؤوا إن شئتم: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»( ).
وعن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت رسول الله يقول : «قال الله: أنا الرحمن وهي الرحم، شققت لها اسماً من اسمي، من وصلها وصلته ومن قطعها بتتُّه»( ).
قال النووي -رحمه الله-: وأما (صلة الرحم) فهي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك ( ).
تفقد أحوال المسلمين:
قال تعالى : لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273].
أخبر تعالى في هذه الآية أن هناك أناسًا من المسلمين أشد ما يكونوا حاجة إلى المساعدة، ولكن نفوسهم الكريمة تأبى أن تسأل الناس شيئاً.
ولذلك كان الصالحون يتفقدون أحوال إخوانهم باستمرار، وهكذا أمرنا رسول الله مع الجار حيث يقول : «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»( ).
وكانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
أتى رجل صديقاً له فدق عليه الباب، فخرج الصديق، وقال له : ما جاء بك ؟ قال : عليَّ أربعمائة درهم دَيْن. فوزن له صديقه أربعمائة درهم، وأعطاه إياها، ثم عاد وهو يبكي ! فقالت له امرأته : لم أعطيته إذ شق عليك ؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي!!
إماطة الأذى عن الطريق:
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان»( ).
عن أبي ذر عن النبي قال : «عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن»( ).
عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له»( ).
نفع الناس بأعمال قد تبدو صغيرة ولكن أجرها عند الله كبير:
فلا ينبغي للمؤمن أن يحتقر معروفا وإن قل، عن أبي ذر قال : قال لي النبي : «لا تحقرن من المعروف شيئا, ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»( ).
ولا يحقرن المسلم من الأعمال النافعة شيئا، حتى تنظيف المسجد له منزلة عظيمة في الإسلام، فهذه امرأة كانت تقمَّ [تنظف] المسجد، ففقدها رسول الله فسأل عنها، فقالوا : ماتت قال : «أفلا كنتم آذنتموني» قال : فكأنهم صغروا أمرها، فقال : «دلوني على قبرها» فدلوه فصلى عليها، ثم قال : «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم»( ).
قال النووي -رحمه الله- : قوله : «تقم المسجد» أي تكنسه. قوله : «أفلا كنتم آذنتموني» أي أعلمتموني.
ونفع الناس قد يكون ولو بكلمة:
عن معاوية قال : سمعت رسول الله يقول : «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم، فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها »( ).
جاء في عون المعبود : (أي إذا بحثت عن معائبهم وجاهرتهم بذلك، فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم عنك فيجترئون على ارتكاب أمثالها مجاهرة)( ).
ونفع الناس قد يكون بالدعاء
عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله يقول : «من دعا لأخيه بظهر الغيب؛ قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل»( ).
نفع الناس ولو في الطرقات:
عن البراء بن عازب قال مر رسول الله على مجلس من الأنصار فقال: «إن أبيتم إلا أن تجلسوا، فاهدوا السبيل، وردوا السلام وأعينوا المظلوم»( ).
وليس النفع قاصراً على نفع الناس فقط، بل حتى الحيوان، في إطعامه وسقيه وإراحته أجر للمؤمن.
الرفق بالحيوان:
إن المسلم خيره كالريح المرسلة، ينتفع به جميع المخلوقات، حتى الحيوانات.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له » قالوا : يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا ؟ فقال : «في كل كبد رطبة أجر»( ).
قال النووي -رحمه الله- «في كل كبد رطبة أجر» معناه : في الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه أجر ( ).
قال بعض أهل العلم: وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلباً على شدة ظمئه، فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين؟
-عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله : «من حفر ماء لم يشرب كبد حي من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة»( ).
ويقول عمر بن الخطاب : (لو عثرت بغلة بالعراق, لسألني الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة)( ).
ما يبقى بعد الموت
أولاً: الإيمان والصلاح:
فيبقى أثر الإيمان والصلاح بعد موت العبد، فينتفع بذلك بعد موته، فمن ثمراتهما:
1-انتفاع الرجل الصالح بدعاء الملائكة والمؤمنين:
قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] والمسلمون يدعون في كل صلاة للصالحين من عباد الله بالسلامة من جميع الشرور: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)( ).
2-حفظ الذرية:
قال الله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] فحفظ الله تعالى المال لهذين الغلامين بصلاح والدهما ( ).
ثانياً: السنة الحسنة:
عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله : «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده؛ كتب له مثل أجر من عمل بها, ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده؛ كتب عليه مثل وزر من عمل بها, ولا ينقص من أوزارهم شيء»( ).
عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»( ).
قال النووي - رحمه الله - : قوله : «من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة» الحديث وفي الحديث الآخر «من دعا إلى هدى... ومن دعا إلى ضلالة».
هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سنَّ سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه،أم كان مسبوقاً إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو عبادة، أو أدب، أو غير ذلك. قوله : «فعمل بها بعده»معناه إن سنها سواء كان العمل في حياته أو بعد موته ( ).
وكذلك من سنَّ سنة سيئة:
قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل»( ).
ثالثاً: العلم النافع والصدقة الجارية والولد الصالح الذي يدعو لوالديه:
عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»( ).
قال النووي -رحمه الله-: قوله : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الجواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وقد سبق بيان اختلاف أحوال الناس فيه، وأوضحنا ذلك في كتاب النكاح. وفيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه. والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالنافع. وفيه : أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدين كما سبق ( ).
قال ابن القيم -رحمه الله- في معرض حديثه عن فضل العلم : (وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره وقد صار أشلاء متمزقة وأوصالاً متفرقة وصحف حسناته متزايدة، تملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب، تلك والله المكارم والغنائم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليه، وتوفر إليها الأوقات، وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنِّه وكرمه، وأصحاب هذه المرتبة يدعون عظماء في ملكوت السماء, كما قال بعض السلف من عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء)( ).
وعن أبي هريرة عن النبي قال : «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا فيقال باستغفار ولدك لك»( ).
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته»( ).
«ونشره»هو أعم من التعليم فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب.
قال السندي - رحمه الله - : «وولدا»: عَدُّ الولد الصالح من العمل والتعليم حسن؛ لأن الوالد هو سبب في وجوده, وسبب لصلاحه بإرشاده إلى الهدى كما جعل نفس العمل في قوله تعالى: عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قوله : «ومصحفا ورثه» من التوريث أي تركه إرثا وهذا مع ما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقة أو حكما فهذا الحديث كالتفصيل انقطع عمله إلا من ثلاث.
«ورثه»: أي تركه للورثة ولو ملكاً، وفي معناه كتب العلوم الشرعية فيكون له ثواب التسبب.
«أو مسجداً بناه»: وفي معناه مدرسة العلماء ورباط الصلحاء.
«أو بيتاً لابن السبيل»: أي المسافر والغريب.
«أو نهراً أجراه»: أي جعله جارياً لينتفع به الخلق.
قوله «في صحته وحياته»: أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. وفيه ترغيب إلى ذلك ليكون أفضل صدقة كما يدل عليه جوابه لمن قال : أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال «أن تصدق وأنت صحيح شحيح...» الحديث، وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقف على ذلك( ).
عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله أنه قال : «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : مرابط في سبيل الله، ومن عمل عملاً أُجْرِيَ له مثل ما عمل، ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولدا صالحا فهو يدعو له»( ).
رابعا: إعداد الرجال:
ليكن همك إعداد رجال خير منك وهذا هو هدي القرآن قال تعالى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142].
وهو كذلك هدي السنة:
فقد أتت امرأة رسول الله فكلمته في شيء فأمرها بأمر فقالت : أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»( ) زاد الحميدي عن إبراهيم بن سعد : كأنها تعني الموت.
أمَّر رسول الله على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، وقال : «إن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة»( ).
استخلف رسول الله على المدينة أثناء الغزوات أكثر من أحد عشر صحابياً منهم: (سعد بن عبادة، زيد بن حارثة، بشير بن عبد المنذر، سباع الغفاري، عثمان بن عفان، ابن أم مكتوم، أبو ذر الغفاري، عبد الله بن عبد الله بن أبي، نميلة الليثي، كلثوم بن حصين، محمد مسلمة).
وعن علقمة قال : (كنا جلوسا مع ابن مسعود فجاء خباب فقال : يا أبا عبد الرحمن، أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرءوا كما تقرأ؟
قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك. قال : أجل.
قال : اقرأ يا علقمة.
قال علقمة: فقرأت خمسين آية من سورة مريم. فقال عبد الله : كيف ترى ؟ قال خباب : قد أحسن. قال عبد الله : ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه)( ).
وذكروا في السير أن علقمة كان حسن الصوت.
عن أبي حمزة قال : قلت لرباح أبي المثنى ألست قد رأيت عبد الله؟
قال: بل وحججت مع عمر ثلاث حجات وأنا رجل!!
قال : وكان عبد الله وعلقمة يصفان الناس صفين، فيقرئ عبد الله رجلاً، ويقرئ علقمة رجلاً، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام!!
فإذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتاً وهدياً.
وإذا رأيت إبراهيم النخعي فلا يضرك أن لا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتاً( ).
وعن الأعمش قال : قال لي إبراهيم وأنا شاب في فريضة : (احفظ هذا لعلك تسأل عنها)( ).
أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف:
قال يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي : توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فاجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة : مري يا رعناء هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت عنه وقالت له : أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء, وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي هارون : يا يعقوب كلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله، فقلت : وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال : هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي : مما ضحكت ؟ فقلت : خيراً أبقى الله أمير المؤمنين، قال : لتخبرني وألحَّ عليَّ فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال : لعمري إن العلم ليرفع وينفع دينا ودنيا، وترحم على أبي حنيفة وقال : كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه)( ).
ويمكن للعالم أن يعد طلابه ليكونوا علماء المستقبل بما يلي:
تشجيع العالم لطلابه على البحث والتدقيق وقراءة هذه الأبحاث على الطلبة في حضور الشيخ، وإبداء ملاحظاته حتى يستفيد منها الجميع.
إلقاء المسائل على الطلاب وتشجيعهم على القول فيها، واستماع أقوالهم وعدم تسفيه شيء منها، كما كان النبي يسأل أصحابه أحياناً.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله يوماً لأصحابه : «أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن... ثم ذكر أنها هي النخلة»( ).
تعليم الطالب الاستنباط وطرق الاستدلال وكيفية مناقشة الأقوال، وتطبيق القواعد والأصول على الفروع.
بعد بلوغ الطالب درجة معينة يسمح له شيخه بإلقاء الدروس على المبتدئين تدريباً وإعداداً له، وصقلاً لقدراته، فإذا بلغ درجة معينة يسمح له شيخه بالاستقلال عنه، ويكون لهذا الطالب دروسه الخاصة به، كما كان السلف يجيزون طلابهم في الفتوى، كالإمام مالك والشافعي وغيرهم.
لا يربي طلابه على الطاعة العمياء بل يدربهم على القيادة، لأن الأمة تحتاج إلى القادة الذين يقودونها لما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، ولذا كان الخلفاء قديما يسندون قيادة الجيوش وإمارة بعض الغزوات إلى من دونهم، تدريباً لهم وصقلاً لشخصياتهم، ليكونوا حملة الراية من بعدهم.
خامساً : الوقف الإسلامي:
فالوقف أحد الأسباب التي تكون طريقاً لزيادة الحسنات وتكثير الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة.
والوقف : هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ( ).
والمراد بالأصل: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالدور والدكاكين والبساتين ونحوها.
والمراد بالمنفعة : الغلة الناتجة عن ذلك الأصل، كالثمرة والأجرة وسكني الدار ونحوها.
وهذا التعريف موافق لقول النبي لعمر : «فاحبس أصلها وسبل الثمرة»( ).
الأدلة على مشروعية الوقف:
قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] أي من الصدقات ( )، والوقف منها فهو مندوب إليه.
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»( ).
قال النووي -رحمه الله- : (الصدقة الجارية هي الوقف)( ).
ولتشريع سنة الوقف حِكَمٌ عظيمة أبرزها ما يلي:
1-يعتبر الوقف مصدرا تمويليا دائما لتحقيق مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه وعاء تصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات، ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال المسلمين وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يكون من جهة حلال ومن طيب المال.
2-يعد الوقف من أكثر أعمال البر أثرا في المجتمعات، فهو مؤسسة تمويلية تنموية كبيرة، ولقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الإسلامية الماضية الدور الكبير والعطاء المتميز لمؤسسة الوقف في تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العلمية والصحية والمجتمعية، وفي رعاية المساجد والمكتبات والمدارس والبيمارستانات (المستشفيات)، إضافة إلى دور هذه المؤسسة في دعم الحركة التجارية والنهضة الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور.
كما أن لها آثاراً اجتماعية، أهمها : تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء، ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى وحفر القبور.
3-الوقف يعمل على تقوية واستمرار جانب العلم الشرعي الذي هو من أهم ما تبنى عليه الدعوة الإسلامية حركة علمية منقطعة النظير، فوفرت للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً وتراثاً إسلامياً خالداً وفحولاً من العلماء لمعوا في التاريخ العلمي كله.
4-الوقف يحقق مبدأ التكافل بين الأمة الإسلامية, وإيجاد التوازن في المجتمع؛ إذ هو يرفع من مكانة الفقير ويقوي الضعيف ويعين العاجز.
5- يحقق الوقف مصلحة عامة للأمة بتوفير احتياجاتها ودعم تطويرها ورقيها؛ وذلك بما يوفره الوقف لمشروعاتها الإنمائية وأبحاثها العلمية.
6-الوقف يعمل على ضمان بقاء المال ودوام الانتفاع به والاستفادة منه مدة طويلة وأجيالاً متعددة، وحفظه من عبث العابثين وفيه بالتالي استمرار لثواب الوقف.
الخاتمة
عن أنس قال : قال رسول الله : «مثل أمتي مثل المطر، لا يدري أوله خير أم أخره»( )، إن مدلولات لفظة المطر أو الغيث كما في بعض ألفاظ الحديث، تعبر عن مكامن الخير في هذه الأمة، فالغيث رحمة مهداة من الله تعالى إلى خلقه، وبه يحيي الله الأرض من بعد موتها.
وهكذا تكون همة أهل الخير في كل زمان، ولسان حال أحدهم : (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة).
والغيث يأتي الناس في حال شدة، وقنوط، ويأس، وهذه الأمة الإسلامية أمة خير وعطاء، أمة لا تيأس، ولا تلين، ولا تستكين على مر التاريخ، ولقد مرت بديار الإسلام في تاريخها الطويل أزمات وأزمات، وحلت بها بلايا ونكبات، وزلزلت الأرض زلزالها، وفي كل مرة تخرج هذه الأمة من مآزق كبرى أصلب عوداً، وأشد إيماناً، وفي كل مرة يظن أهل الكيد والمكر أنهم قدروا عليها، ولكن الله لهم بالمرصاد، قال تعالى : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
ولما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] وقوله جل وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فهموا من ذلك أن المراد أن يجتهد كل واحد منهم، حتى يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل للآخرة أكثر منه نافسه وحاول اللحاق به، بل مجاوزته، فكان تنافسهم في درجات الآخرة، واستباقهم إليها كما قال تعالى : وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
والله أسأل للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد صالح المنجد
samedi 13 février 2010
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire