بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد:
فإليك أخي الكريم جملة من القصص البديعة الهادفة.. أبطالها قوم خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.. حتى ضربوا لنا أرفع الأمثلة في الصبر على الأحزان.. بل والاستبشار بالمصائب والآلام.. إذ تلقوها من الله بالقبول والرضى.. والتزموا فيها أدب الصبر والبلاء.. فلم يظهر منهم الجزع.. ولا بدا منهم السخط.. ولا سمع منهم تبرم شطط!.. أولئك هم الصابرون حقًا..
وهذه القصص فيها من العبر والعظات لكل محزون ومهموم ومكروب ومغموم ما يسليه عن حاله.. ويثبته في أقواله وأفعاله.. ويعلمه أدب البلاء.. وانتظار الفرج.. وقيمة الصبر على التغلب على المشاق.
فارتع – أخي – في أحوال الصابرين.. وتعلم من قصصهم كيف تحول المحنة منحة.. والبلية مزية.. والأتراح أفراح.. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
والله الموفق،،،
أبو الحسن بن محمد الفقيه
الصبر الجميل
فإذا كنت أيقنت – أخي – أن لكل بداية نهاية.. ولكل ليل فجر.. وأن الأحزان مهما طالت لا تدوم.. وأن الكروب مهما حلت لا تبقى.. فاستعمل لها سلاحها.. واستعن عليها بدوائها.. واصبر عليها صبرًا جميلاً.. فإنه لا يوجد كرب إلا ومعه فرج.. ولا يوجد صبر إلا ومعه نصر!
قال رسول الله : «إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها». [صحيح الترغيب رقم: 2743].
فالصبر يدفع حرارة البلاء.. ويكابد وقعه.. ويحفظ صاحبه من اليأس والقنوط.. ويبعث نفسه على التفاؤل والطمع في رحمة الله، وحسن الظن فيه ورجاء الفرج من عنده.. وهذه الخصال النفسية كلها هي من عوامل الثبات والعزم.. كما قال الشاعر:
تعودت مر الصبر حتى ألفته
وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس راجيًا
لحسن صنيع الله من حيث لا أدري
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 155].
البلاء مهما طال فهو إلى زوال.. والأحزان مهما آلمت فبقاؤها محال! فطوبى لمن رزق صبرًا يتبلغ به من ألم الحزن إلى رحمة الفرج.. ومن مرارة العسر إلى حلاوة اليسر.. ومن ضيق الكرب إلى سعة الفرج والانشراح.
لا تجزع للمصيبة.. فجزعك لا يغير من أمرها شيئًا.. لكن يزيدك همًا في الدنيا.. وخسرانًا في الآخرة.. وتعبد الله بالبلاء كما تتعبده بالرخاء.. فإنما يبتلي الله من يحب.. ولا يحب من يجزع.
ثم تذكر أن الله ما ابتلاك سواء في مالك أو جسدك أو ولدك إلا لأنه أراد الخير لك في دنياك وآخرتك، فإما يغفر بالبلاء ذنبك، وإما يرفع به قدرك.
فعن جابر قال: قال رسول الله : «ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء». [رواه الترمذي]. فصبر جميل!
وإليك أخي أسبابًا ثلاثة لتحقيقه:
أسباب الصبر على البلاء
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: «هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء:
إحداها: «ملاحظة حسن الجزاء»: وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته، يخف حمل البلاء لشهود العوض، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة موجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات، وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من رافق الراحة فارق الراحة، وحصل على المشقة وقت الراحة، فإنه على قدر التعب تكون الراحة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها
وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد: أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك.
والثاني: «انتظار روح الفرج»: يعني راحته ونسيمه ولذته، فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء؛ فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو خفي الألطاف، وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه: «اللطيف».
وكم لله من لطف خفي
يدق خفاه عن فهم الذكي
والثالث: «تهوين البلية» بأمرين:
أحدهما: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها، وأيس من حصرها، هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه – بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه – كقطرة من بحر.
الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن: يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، يتعلق بالمستقبل، وأحدهما في الدنيا، والثاني يوم الجزاء». [مدارج السالكين 12/166-167]
إنما يعوض الله من صبر
مما يسلي أهل المصائب: أن المصاب إذا صبر واحتسب، وركن إلى كريم، رجاء أن يخلف الله تعالى عليه، ويعوضه عن مصابه، فإن الله تعالى لا يخيبه بل يعوضه، فإنه من كل شيء عوض إلا الله تعالى فما عوض، كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوض
وما من الله إن ضيعته عوض
بل يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدث له، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجب أو فعل محرم كنت في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر ورضى كنت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا عليه وقدحًا في حكمته ومجادلة في الأقدار، فقد قرعت باب الزندقة، وفتح لك وولجته فاحذر عذاب الله أن يحل بك، فإنه لمن خالفه بالمرصاد.
وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله كنت في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له رضى بالله ورضى عن الله وفرحًا بقضائه كنت في ديوان الراضين، وإن أحدثت له حمدًا وشكرًا كنت في ديوان الشاكرين الحامدين، وإن أحدثت له حمدًا واشتياقًا إلى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين.
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي، من حديث محمود بن لبيد، أن النبي قال: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط».
زاد الإمام أحمد: «ومن جزع فله الجزع».
فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب..
فمن ادعى محبة محبوب، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبه.
قال أبو الدرداء : «إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يرضى به».
وكان عمران بن حصين يقول في مرضه: «أحبه إلي أحبه إليه».
وقال بعده أبو العالية: «وهذا دواء المحبين وعلاجهم لأنفسهم، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به، فانظر هذه الطرائق واختر وفقنا الله وإياك لما يحب» [تسلية أهل المصائب].
أقوال السلف في الصبر على الأحزان
* ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، قال: قال إبراهيم بن داود: قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبشر، قال: فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم، ثم قال: قال وهب بن منبه: وجدت في زبور داود: يقول الله تعالى: «يا داود، هل تدري من أسرع الناس ممرًا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري».
* قال عبد العزيز بن أبي داود: «ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان المرض، وكتمان الصدقة».
* وقال بعض السلف: «ثلاثة يمتحن بها عقول الرجال: «كثرة المال، والمصيبة، والولاية».
* وقال عبد الله بن محمد الهروي: من جواهر البر: كتمان المصيبة، حتى يظن أنك لم تصب قط».
* وقال عون بن عبد الله: «الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة».
* قال علي بن أبي طالب : «الصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب له ثلاثمائة درجة، ومن صبر على الطاعة، كتب له ستمائة درجة، ومن صبر عن المعصية، كتب له تسعمائة درجة»,
* وقال ميمون بن مهران: «الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية».
* وقال الجنيد، وقد سئل عن الصبر، فقال: «هو تجرع المرارة من غير تعبس».
* وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]: «صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه». اهـ. فكأنه رحمه الله جعل الصبر عن المعصية داخلاً في قسم المأمور به.
* قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي السفر، قال: مرض أبو بكر فعادوه، فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني الطبيب. قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
* قال أحمد: «حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مجاهد، قال: قال عمر بن الخطاب: «وجدنا خير عيشنا بالصبر». وفي رواية: «أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا».
* وقال علي بن أبي طالب: «ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له».
* وقال الحسن: «الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده».
* وقال عمر بن عبد العزيز: «ما أنعم الله على عبد نعمة، فانتزعها منه، فعاضها مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه منه».
* وكان لبعض العارفين رقعة، يخرجها كل وقت، فينظر فيها، وفيها مكتوب واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا.
* وقال مجاهد في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، في غير جزع.
* وقال عمرو بن قيس {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال: «الرضا بالمصيبة والتسليم».
* وقال حسان: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: لا شكوى فيه.
* وقال همام عن قتادة في قول الله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] قال: كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا، وقال الحسن: الكظيم: الصبور. وقال الضحاك: كظيم الحزن.
* وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا عبد الله بن لهيعة، عن عطاء بن دينار، أن سعيد بن جبير قال: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله».
قال يونس بن زيد: سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى الصبر؟ قال: «أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه».
وقال قيس بن الحجاج في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]، قال: «أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو».
أيوب ابتلي ثمان
عشرة سنة بالمس
إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشر سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذا يوم أبطأ عليها وأوحى إلى أيوب أن {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}، فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحًا، فقال: فإني أنا هو: وكان له إندران أي: (بيدران: ) أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض. [سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم: 17].
الصبر طريق الجنة
عن عطاء: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! هذه المرأة السوداء، أتت إلى رسول الله فقالت له: يا رسول الله، إني أصرع، فادع الله لي.
فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك».
فقالت: أصبر.
ثم قالت: يا رسول الله، إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها» [رواه البخاري ومسلم].
فرحم الله هذه الصحابية الجليلة.. رأت بعين عقلها ونور قلبها سعة الآخرة فطلبتها.. وحقارة الدنيا فصبرت على دائها وضرائها.. واختارت صبر أيام لتنال عزًا خالدًا.
وفي قصتها تسلية لكل مصاب صابر.. محتسب على مصابه.. ينتظر من الله فرجًا عاجلاً.. أو ثوابًا آجلاً.
يقول ابن القيم رحمه الله: «وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولد من ذلك إيثار العاجلة، ورفض الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب، الذي يخرق حجب العاجلة، ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر.
إنا لفي دار تنغيص وتنكيد
دار تنادي بها أيامها بيدي
لقد عرفناك يا دنيا بمعرفة
بانت لنا فانقضى إن شئت أو زيدي
هكذا فلتكن النساء
ذكر أبو الفرج بن الجوزي في عيون الحكايات: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها، فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء ولو وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحًا، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني.
ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رفعتها، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني.
فوقف الراكب عليها، فقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل، قالت: ويحك! مات ابنتي؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشًا، فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا، خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: يا هؤلاء، هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئًا؟ قلت: نعم، قالت: اقرأ من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
قالت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا؟
قلت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا!
قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها، وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثًا، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني.
قصة تفوق الخيال
قال ابن حبان في كتابه الثقات: «حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد، قال: ثني يعقوب بن إسحاق بن الجراح، قال: ثني الفضل بن عيسى، عن بقية بن الوليد، حدثني الأوزاعي، عن عبد الله بن محمد، قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا وكان رابطنا يومئذ عريش مصر، قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحة، وفي البطيحة خيمة، فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه، وهو يقول: «اللهم أوزعني أن أحمدك حمدًا، أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً»، قال الأوزاعي: قال عبد الله: قلت: والله لآتين هذا الرجل، ولأسألنه أني له هذا الكلام، فهم أم علم أم إلهام ألهم؟ فأتيت الرجل فسلمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: «اللهم.... تفضيلاً»، فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها؟
قال: وما ترى ما صنع ربي؟! والله لو أرسل السماء علي نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلغتني، ما ازددت لربي إلا شكرًا، لما ألأنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني، لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، ولقد كان معي بني لي يتعاهدني في وقت صلاتي، فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسسه لي رحمك الله.
فقلت: والله ما مشى خلق في حاجة خلق، كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجة مثلك، فمضيت في طلب الغلام، فما مضيت غير بعيد، حتى صرت بين كثبان الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: أني لي وجه رقيق أتى به الرجل؟!
فبينما أنا مقبل نحوه، إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي ، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام. فقال: ألست بصاحبي؟
قلت: بلى، قال: ما فعلت في حاجتي؟
فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟
قال: بل أيوب النبي.
قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى.
قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا.
قلت: لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قل: نعم.
قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا.
قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضًا لمار الطريق، هل علمت؟ قال: نعم.
قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا. أوجز رحمك الله.
قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر.
فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه، فيعذبه بالنار. ثم استرجع، وشهق شهقة فمات، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت، لم أقدر على ضر ولا نفع، فسجيته بشملة كانت علي، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله، ما حالك؟ وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه، فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهه، فانكب القوم عليه، يقبلون عينه مرة، ويديه أخرى، ويقول: بأبي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كان ساجدًا والناس نيام، فقلت: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي، صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي .
فغسلنا وكفناه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم وانصرف إلى رباطي، فلما أن جن علي الليل، وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة، وعليه حلتان من حلل الجنة، وهو يتلو الوحي: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، فقلت: ألست بصاحبي؟ قال: بلى، قلت: أني لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية».
صبر فتح الموصلي على الجوع والعري
قال إبراهيم بن عبد الله: «صدع فتح الموصلي، فقال: يا رب، ابتليتني ببلاء الأنبياء، فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة».
[حلية الأولياء لأبي نعيم 8/292]
* وقال بشر بن الحارث: «بلغني أن بنتًا لفتح الموصلي عريت، فقيل له: ألا تطلب من يكسوها؟ فقال: لا، أدعها حتى يرى الله عز وجل عريها وصبري عليها، قال: وكان إذا كان ليالي الشتاء، جمع عياله وقام بكسائه عليهم، ثم قال: «اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي، وجوعتني وجوعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي، بأي وسيلة توسلتها إليك، وإنما هذا بأوليائك وأحبابك، فهل أنا منهم حتى أفرح؟ [حلية الأولياء لأبي نعيم 8/292].
فما أفقه هذا الإمام.. وما أصبره على البلاء والآلام.. إذ فطن لمراد الله من ابتلائه.. وأظهر له جلده وصبره.. وحسن به ظنه.. ثم شك في صلاح نفسه وهو يدريك صلاحها نفيًا للعجب وإمعانًا في نكران الذات..
لقد أدرك البلاء هو علامة حب الله لعبده.. فراح يسأل هل أنا منهم؟ فما أجمل صبره وما أبعده نظره!
ولذلك قال أبو بكر المروزي: ذكرت لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل – الفضل وعريه، وفتح الموصلي وعريه وصبره، فتغرغرت عينه وقال رحمهم الله، كان يقال: عند ذكر الصالحين، تنزل الرحمة».
الصابرون على فقد الأبناء
1- روى ابن أبي حاتم بإسناده في تفسيره عن خالد بن يزيد، عن عياض، عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى، فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش، فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟! فهذا رجل صابر راض محتسب، ما أحسن فهمه وحسن تعزيته لنفسه، وثقته بما أعطاه الله من ثواب الصابرين.
2- وعن ثابت قال: مات عبد الله بن مطرف، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، فقالوا: يموت عبد الله وتخرج في مثل هذه مدهنًا؟ قال: أفأستكين لها، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها خصالاً، كل خصلة منها أحب إلى من الدنيا كلها؟! قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، فأستكين لها بعد ذلك؟! ثم قال ثابت قال مطرف: ما شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا. [رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد].
3- وعن محمد بن خلف، قال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانبًا كبيرًا، قال: فمات، فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا، في صبي قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي، كأن القيامة قد قامت، وكأن صبيانًا بأيديهم قلال فيها ماء، يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم يومًا حارًا، شديدًا حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إلي، وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباؤنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
4- وروى ابن أبي شيبة، بإسناده عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم، كان في غزاة له ومعه ابن له، فقال له: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء، فقامت امرأته معاذة العذرية، فقالت للنساء: مرحبًا، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحبًا بكن، وإن كنتن جئتن لغير لك فارجعن.
5- فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس، قال اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات وأبوه كلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات، هيأت شيئًا، وجعلت ابنها في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج، أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي ثم أخبره بما كان منها، فقال رسول الله : «لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما»، فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن.
وفي لفظ أنها قالت لأهلها لما مات ولدها: لا يكلم لأبي طلحة أحد قبلي، فلما دخل، سأل عن الصبي، فقالت: إنه قد هدأ مما كان، قدمت له طعامًا فأكل، ثم تصنعت له حتى واقعها، ثم قالت: يا أبا طلحة، أرأيت قومًا أودعوا قومًا وديعة، ثم طلبوها منهم، أفما يجب أن يؤدوها إليهما؟ قال: بلى، قالت: فاحتسب ابنك. فغضب لما صنعت به، فلما كان الصباح، ذهب إلى رسول الله يشكوها إليه، فتبسم رسول الله وقال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما، فجاء بغلام حنكه رسول الله وسماه عبد الله، وهو الذي كان من سلالته الإخوة القراء، والأول هو أبو عمير الذي كان رسول الله يداعبه ويقول له: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ أي: ما فعل عصفورك.
6- مات لرجل من السلف ولدًا، فعزاه سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وآخرون، وهو في حزن شديد، حتى جاءه الفضيل بن عياض، فقال: يا هذا أرأيت لو كنت في سجن وابنك، فأفرج عن ابنك قبلك، أما كنت تفرح؟ قال: بلى! قال: فإن ابنك، خرج من سجن الدنيا قبلك، قال: فسري عن الرجل، وقال: تعزيت. [رواه الحافظ بن عساكر].
صور مشرقة من صبر السلف
على البلاء
* عن يونس بن محمد المكي قال: زرع رجل من أهل الطائف زرعًا فلما بلغ أصابته آفة فاحترق، فدخلنا عليه لنسليه فيه فبكى، وقال: وما عليه أبكي، ولكني سمعت الله تعالى يقول: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}
[آل عمران: 117]، فأخاف أن أكون من أهل هذه الصفة فذلك الذي أبكاني.
* وذكر سلمان الفارسي أن رجلاً بسط له في الدنيا، فانتزع ما في يده فجعل يحمد الله عز وجل ويثني عليه حتى لم يكن له فراش إلا بوري، فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط للآخر في الدنيا، فقال لصاحب البوري، أرأيتك أنت علام تحمد الله عز وجل؟ قال: أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك، أرأيت لسانك؟ أرأيت يدك؟ أرأيت رجلك؟
* وقال علي بن الحسن: كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضرير على سرير مثقوب، فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟
قال: ملك الدنيا منقطع إلى الله عز وجل مالي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام.
* ومرض كعب، فعاده رهط من أهل دمشق، فقالوا: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟ قال: بخير، جسد أخذ بذنبه، إن شاء ربه عذبه، وإن شاء رحمه، وأن بعثه بعثه خلقًا جديدًا، لا ذنب له.
* وعاد رجل من المهاجرين مريضًا فقال له: إن للمريض أربعًا: يرفع عنه القلم، ويكتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته، ويتبع المرض كل خطيئة من مفصل من مفاصله فيستخرجها، فإن عاش عاش مغفورًا له، وإن مات مات مغفورًا له، فقال المريض: اللهم لا أزال مضطجعًا.
samedi 13 février 2010
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire