الإمام النووي
جمع وترتيب أحمد فريد
مقدمة
نسأل الله ـ تعالى ـ حسن الخاتمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما.
ثم أما بعد ،
فما أطيب سيرة العلماء العاملين ، والأئمة الكاملين ، الذين زينهم الله ـ عز وجل ـ بالعلم واليقين وأبقى لهم من الثناء الحسن والذكرى العطرة ، والمحبو التي تملأ قلوب عباده المؤمنين كما وعد الله ـ عز وجل ـ أهل الأيمان والعمل الصالح فقال تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سجعل لهم الرحمن ودا " (مريم : 96) أي مودة ومحبة ، فيحبهم الله ـ عز وجل ـ ويحببهم إلى عباده وقيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله فيحبه الناس وفي رواية " فيثني عليه الناس " فقال تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم.
وإمامنا النووي من أوفر العلماء تصيب من هذه المحبة ومن ثناء الخلق ، والدارس لترجمته ـ رحمه الله ـ يرى فيه من الزهد ، والورع والحرص على طلب العلم النافع والعمل الصالح والقوة في الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخشية والمحبة للهت ـ عزو وجل ـ ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يبين سر هذه المحبة التي تملأ قلوب الخلق.
لقد فاق الإمام النووي علماء عصره ومن المرجح أنه ـ رحمه الله ـ مات ولم يتعد الخامسة والأربعين عاما ، وترك من الآثار العلمية والتقريرات والكتب المحررات ما فاق به علماء عصره وأئمة دهره.
فهذه ترجمة الإمام النووي أهديها إلى إخواننا من طلاب العلم لعلها تكون سببا في شحذ هممهم في طلب العلم ، والزهد في أعراض الدنيا الفانية أو الرغبة في الآخرة الباقية ، لقد تزوج شيخنا النووي كتب العلم النافع ، ورضى بسكنى الأربطة المعدة للطلاب وقنع بالكعك والتين ، حتى يوفر وقته وجهده لخدمة المسلمين ، وكان يلبس المرقع من الثياب ولا يبالي بزينة الدنيا طلبا لرضى الملك الوهاب ، فما نال من الدنيا من زينتها وشهواتها ، ولم تنل منه الدنيا شيئا ، فكانت حياته كلها لله ـ عز وجل ـ حتى فارق الدنيا وهو في طلب العلم والعبادة والزهادة والتصنيف والإفادة ، فرحمه الله رحمة واسعة وأدخلنا وإياه وجنة عالية ، قطوفها دانية.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
اسمه وكنيته ولقبه ومولده وصفته رحمه الله
اسمه : يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام الحزامي الحوراني الدمشقي الشافعي.
كليته : أبو زكريا ، وهي كنية على غير قياس ، وقد استحب ذلك أهل العلم كما قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع :
" ويستخب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء سواء كان له ولد أم لا ، وسواء كنى يولده أو بغيره ، وسواء كنى الرجل بأبي فلان أو بأبي فلانة ، وسواء كنيت المرأة بأم فلان أم فلانة "
وإنما كنى بأبي زكريا لأن اسمه يحيى ، والعرب تكني من كان كذلك بأبي زكريا التفاتا إلى نبي الله يحيى وأبيه زكريا ـ عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ ، كما تكني من كان اسمه يوسف بأبي يعقوب ومن اسمه إبراهيم بأبي إسحاق ، ومن اسمه عمبر بأبي حفص على غير قياس ، لأن يحيى ويوسف مولودان لا والدان ، ولكنه أسلوب عربي مسموع.
لقبه : محيي الدين ، وقد كان رحمه الله يكره أن يلقب به.
قال اللخمي : وصح عنه أنه قال : لا أجعل في حل من لقبي محيي الدين ، وذلك منه على ما تشأ عليه من التواضع وإلا فهو جدير به لما أحيا الله به من سن وأمات به من بدع وأقام به من معروف ، ودفع به من كنكر ، وما نفع الله به المسلمين من مؤلفات ، ولكن بأبي الله إلا أن يظهر هذا اللقب له عرفانا وإشارة بذكره وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه :" وما تواضع أحد لله إلا رفعه .."
مولده : اتفق المؤرخون على تحديد شهر محرم من عام واحد وثلاثين وستمائة للهجرة لزمن ولادته.
صفته : قال الذهبي : كان أسمر ، كث اللحية ، ربعة ، مهيبا ، قليل الضحك ، عديم اللعب ، بل جد صرف يقول الحق وإن كان مرا ، لا يخاف في الله لومة لائم.
ووصفه الذهبي أيضا بأن لحيته سوداء فيها شعرات بيض وعليه هيئة وسكينة.
وأما بزته : فقال الذهبي : في تاريخ الإسلام : وكان في ملبسه مثل أحاد الفقهاء من الحوارنة ، لا يؤمه له ، عليه شبختانية صغيرة.
وقال في التذكرة : وكان يلبس الثياب الرثة ولا يدخل الحمام وكانت أمه ترسل له القميص ونحوه ليلبسه.
نشأته رحمه الله وطلبه للعلم
ما كاد النووي ـ رحمه الله ـ يبلغ سن التمييز إلا وعناية الله ترعاه ، لتؤهله لخدمة هذا الشرع المظهر المنيف ، فبينما هو في عام السابع من العمر إذ هو نائم ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بجوار والده ـ كما حكاه ابن العطار عن والده ـ إذ يكشف له سر من أسرار الله ـ تعالى ـ في شهر رمضان المبارك ، أخفى إدراته على كثير من خلقه.
ألا وهي ليلة لاقدر فانتبه من سباته نحو نصف الليل وإذا بدارهم ممتلئة نورا فتعجب منه لما يعهده من الظلام الحالك في هذه الليلة ، ولم يكن يدرك لصغر سنة أن هذه الليلة مباركة وهي أرجى ليالي القدر كما ذهب إليه الجمهور ، فأيقظ أباه ليستفسر عن هذا الأمر العجيب الذي رآه على خلاف المعتاد قائلا : يا أبت ما هذه الضوء الذي ملأ الدار فاستيقظ أهله أجمعون فلم يروا شيئا من ذلك ، غير أن والده عرف أنها ليلة القدر ، ولعل الله ـ تعالى ـ كشف هذه الليلة له ليكون سببا لإحياء أبويه وأسرته لها بالعبادة والتضرع فلعل دعوة صالحة متقبلة نصيبه فتكون سببا لسعادته في الدنيا والآخرة ، وقد كان ذلك بتوفيق الله ـ تعلى ـ فشعر أبوه بأن لولده هذا شأنا في المستقبل ، فطفق يغرس في فؤاده منبع كل خير وفضيلة ، ألا وهو القرآن الكريم فذهب به إلى معلم الصبيان وجعله عنده ليعلمه القرآن ، فأخذ يلقنه القرآن شيئا فشيئا ، فكان يتلقاه خير تلق بأذن صاغية وقلب واع ، وما لبث أن شغف بالقرآن حتى لا يحب أن يصرف عن الاشتغال به لحظة واحدة ولم يلهه جماح الصبا ولا مرح الطفولة عن تلاوته ، بل لقد كان يكره كل ما يشغله عن القرآن ، فحدث ذات يوم أن الصبيان أكرهوه على اللعب معهم ، فحاول الفرار من أيديهم وهو يبكي لإكراههم على اللعب معهم ولم يثنه ذلك الحال عن قراءة القرآن ، وإذا بشيخ ظاهر الصلاح يشاهد ذلك الحال منه فيمتلئ قلبه محبة له ، لتفرده عن أقرانه بهذا السلوك الفذ ، وهو إذ ذاك لم يتجاوز العاشرة من العمر ـ أي السن الذي يكون الطفل فيه لا يطمح لشيء أكثر من طموحه للعب والترح ـ وحدث أن جعله أبوه وهو في هذه السن في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن فتفرس هذا الشيخ من سلوكه هذا بأنه سيكون له شأن صالح إن كان له فسحة في الأجل ، فذهب إلى معلمه ووصاه به قائلا له : أنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم وينتفع الناس به ، فساله المعلم ، أمنجم أنت ؟ فأجاب الشيخ : لا ولكن الله أنطقني بذلك.
وقال صاحب الطبقات الوسطى : فلما كان ابن تسع عشرة سنة قدم به والده إلى دمشق ، فسكن بالمدرسة الرواحية ، وحفظ " التنبيه " في نحو أربعة أشهر ونصف ، وحفظ ربع " المهذب " ولازم الشيخ كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي ، ثم حج مع والده ثم عاد ، وكان يقرأ كل يوم اثنى عشر درسا على المشايخ ، شرحا وتصحيحا فقها وحديثا وأصولا ونحوا ولغة إلى أن برع وبارك الله له في العمر اليسير ووهبه العلم الكثير.
ثناء العلماء عليه
قال تلميذه ابن العطار : شيخي وقدوتي الإمام ذو التصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، وحيد دهره وفريد عصره ، الصوام القوام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته ، له الكرامات الطامخة والمكرمات الواضحة ، والمؤثر بنفسه وماله للمسلمين ، القائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه ، والتمل بدقائق الفقه والاجتهاد عن الخروج من خلاف العلماء ولو كان بعيدا والمراقبة لأعمال وتصفيتها من الشوائب ، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة ، وكان محققا في علمه وكل شؤونه ، حافظا لحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، عارفا بأنواعه كلها من صحيحه ، وسقيمه وغريب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه ، حافظا لمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين ، واختلاف العلماء ووفاقهم ، وإجماعهم وما اشتهر من جيمع ذلك ، سالكا في كل ذلك طريق السلف ، قد صرف أوقاته كلها في أنواع العمل ، فبعضها للتصنيف ، وبعضها للتعليم وبعضها للصلاة ، وبعضها للتلاوة والتدبر والذكر لله ـ تعالى ـ وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال الشيخ قطب الدين موسى اليونيني الحنبلي :
" المحدث الزاهد العابد الورع المفتخر في العلوم ، صاحب التصانيف المفيدة ، كان أوحد زمانه في الورع والعبادة والتقلل من الدنيا والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع ، وخشونة الملبس والمأكل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال الكمال جعفر الأدفوي :
إنه صنف تصانيف مفيدة حصل النفع بها ، ودارت عليه الفتوى بدمشق.
قال : ومآثره عزيزة عزيرة ، ومضى على جميل وسداد.
قال : وكان فقده من أعظم المصائب ، وعدمه بليه رمت العباد بسهم من البلاء صائب ، رحمه الله ونفعنا ببركته وحشرنا معه في آخرته في دار كرامته.
وقال الحافظ الذهبي :
الشيخ الإمام القدوة الحافظ الزاهد العابد الفقيه المجتهد الرباني ، شيخ الإسلام ، حسنة الآنام ، محيي الدين ، صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان واشتهرت بأقصى البلدان.
إلى أن قال : لازم الاشتغال والتصنيف محتسبا في ذلك مبتغيا وجه الله ـ تعالى ـ مع التعبد والصوم والتهجد والذكر والأوراد وحفظ الجوارج وذم النفس والصبر على العيش الخشن ملازمة لا مزيد عليها.
قال : وكان ملازمته التامة للعلم ومواظبته لدقائق العمل وتزكية النفس من شوائب الهوى وسيء الأخلاق ومحقها من أغراضها ، عارفا بالحديث قائما على أكثر متونه عارفا برجاله رأسا في نقل المذهب ، متضلعا من علوم الإسلام.
وقال اليافعي :
شيخ الإسلام ، مفتي الآنام ، المحدث المتقن المدقق النجيب الحبر المفيد القريب والبعيد ، محرر المذهب وضابطه ومرتبه ، أحد العباد الورعين الزهاد العالم العامل ، المحقق الفاضل ، الولي الكبير ، السيد الشهير ، ذو المحاسن العديدة والسير الحميدة والتصانيف المفيدة ، الذي فاق جميع الأقران ، وسارت بمحاسنه الركبان واشتهرت فضائله في سائر البلدان ، وشوهدتن له الكرامات وارتقى في أعلى المقامات ، ناصر السنة ، ومتعمد الفتاوى ، ذو الورع الذي لم يبلغنا مثله عن أحد في زمانه ولا قبله.
قال : ولقد بلغني أنه كان يجري دمعه في الليل ويقول :
لئن كان هذا الدمع يجري صبابة على غير ليلى فهو دمع مضيع
قال : وقد رأيت له مقامات تدل على عظم شأنه ، ودوام ذكره لله ـ تعالى ـ ، وحضوره وعمارة أوقاته ، وشدة هيبته ، وتعظيم وعده ووعيده.
وقال الحافظ ابن كثير
الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المذهب ، وكبير الفقهاء في زمانه ، ومن حاز قصب السبق دون أقرانه ، وكان من الزهادة والعبادة والتحري والورع والامتنان على الناس والتخلي لطلب العلم ، والتحلي به على جانب لا يقدر عليه غيره ، ولا يضيع من أوقاته.
وقال تاج الدين السبكي رحمه الله :
كان يحيى ـ رحمه الله ـ سيدا حصورا ، وليثا على النفس هصورا ، وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا إذا صير دينه ربعا معمورا ، له الزهد والقناعة ، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة ، والمصابرة على أنتواع الخير ، لا يصرف ساعة في غير طاعة هذا مع التفنن في أصناف العلوم فقهاء ، ومتون أحاديث وأسماء الرجال ولغة وتصوفا وغير ذلك.
أسباب نبوغه وتقدمه
قال الأستاذ أحمد عبد العزيز قاسم :
من المستحسن أن فصل القول في تكون هذه الشخصية الفذة وبعد استيعاب ترجمته رأيت أن العوامل التي كونتها تنحصر في نوعين :
النوع الأول : عوامل عادية تجري على أمثاله من طلاب العلم غير أنها تختلف من شخص لآخر من حيث التطبيق كاختلافهم في المقاصد والغايات.
وهي :
1- رحلته لطلب العلم
2- حلوله بالمدرسة الرواحية
3- اجتهاده في طلب العلم
4- كثرة دروسه وسماعاته
5- قوة حفظه وكثرة مطالعاته
6- جلاله شيوخه وعنايتهم به
7- توفر الكتب لديه
8- اشتغاله بالتدريس
أما التنوع الثاني : فهي عوامل غير عادية ، وإنما هي مواهب من الله ـ لمن أراد له من عباده كما قال تعالى " يؤتي الحكمة من يشاء " (البقرة : 269) ، ولكن رهن إيتاء الحكمة بتقوى الله ومراقبته حيث قال : " واتقوا الله ويعلمكم الله " (البقرة : 282)
ثم فصل هذين النوعين ، وقد تركنا نقله لطوله ولما قصدناه من الاختصار ، ومن طريف ما ينقل ما اعتذر به الحافظ السبكي عندما طلب منه إكمال المجموع فقال ـ رحمه الله ـ :
" وقد يكون تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشرح إساءة إليه وجناية مني عليه ".
قال : وأني أنهض بما نهض به وقد أسعف بالتأييد وساعدته المقادير ، فقربت منه كل بعيد ، قال : ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الأهلية إلى ثلاثة أشياء
أحدها : فراغ البال ، واتساع الزمان ، وكان ـ رحمه الله ـ قد أوتي من ذلك الحظ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من تعيش ولا أهل.
الثاني : جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والإطلاع على كلاء العلماء ، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك حظ وافر ، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.
الثالث : حسن النية ، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان ـ رحمه الله ـ قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى ، قال : فمن تكون اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث أنى يضاهيه أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها.
ثم دفع السبكي لإتمامه كمال رغبته في أن يعود عليه بركة صاحبة وما أتمه كذلك حتى أكمله المطيعي ـ رحمه الله ـ على الجميع.
زهده وورعه وعبادته رحمه الله
والزهد هو الرغبة عن الشيء لاستقلاله واستحقار والرغبة فيما هو خير منه ، وإنما ينشأ الزهد من اليقين بالآخرة ومعرفة قدر التفاوت بي الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى من الدنيا ، ولم يكن إمامنا النووي ـ رحمه الله ـ ليغتر بالدنيا وزخارفها وزينتها ، وإنما جعل حظه منها كزاد الراكب أسوة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها "
وقد رضي الإمام النووي بأقل ما يبلغه من مأكل ومشرب وملبس ، فكان يأكل الكعك والتين الحوراني الذي يرسله له أبوه ، لأنه لا يتكلف وقتا في الطبخ أو الأكل ، فكان هذا غالب مطعمه ـ رحمه الله ـ ورضي بلبس المرقع من الثياب وسكنى الأربطة المعدة لطلاب العلم ، بحيث كان إذا زاره زائر أوسع له من أمكنة الكتب بوضع بعضها على بعض حتى ويفر للزائر مكانا ولم يدخل الحمام كما ورد عنه ، وهي حمامات عامة يسخن فيها الماء ، وترك أكل الفاكهة كما سيأتي في بيان ورعه ـ رحمه الله ـ فأي زهد يداني هذا الزهد أو يقاربه ، لم يسع لتزوج امرأة حسناء ، أو تملك أمة يتسرى بها بل كانت حياته كلها بذل للنصيحة وطلب العلم وتعليم له وتصنيف وعبادة وزهادة ، والزهد في النفس هو غاية الزهد وقد كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ يعرض نفسه للتلف في نصح الحكام ، وقد قال في رسالته التي وجهها لابن النجار " وأنا بحمد الله ـ تعالى ـ ممن يود القتل في طاعة الله ـ تعالى ـ …"
وقال اليونيني : والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه ، كثرة زهده في الدنيا ، وعظم ديانته وورعه.
أما ورعه رحمه الله : والورع هو الكف عن المحرمات واجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات ، وترك مالا بأس به حذرا مما به بأس.
وقد كان الورع ظاهرا جدا في حياة الإمام النووي ، وفقد وصفه السبكي بقوله : ما اجتمع بعد التابعين المجموع اجتمع في النووي ، ولا التيسير الذي تيسر له.
وما ذاك إلا لما كان عليه من الورع الثخين ، الذي خرب به دنياه جعل دينه معمورا.
ووصف ابن كثير ـ رحمه الله ـ ورعه بقوله : في معرض الثناء عليه ، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل.
فلقد كان من ورعه أنه لا يأكل من فاكهة دمشق بحجة أنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا ، ولا يجوز التصرف في ذلك على وجه الغبطة والمصلحة ، ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها اختلاف بين العلماء قال : فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك.
قال السيوطي ـ رحمه الله ـ لقد أتعب نفسه وأرضى ربه وصميره ، وإلا فقد كان يعلم أن الأصل في الأشياء الإباحة ، حتى يدل الدليل على التحريم ، ويفتي بهذا الأصل ويقرره في كتبه كما قال في تسمية النبات المجهول تسميته حيث قال المتولي : يحرم أكله.
قال النووي : الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي الحل.
فكان له في هذه القاعدة الفقهية مندوحة ، لو أراد أن يمنع نفسه مما أحب من فاكهة دمشق ، وهي حجة له عند ربه ـ إن شاء الله تعالى ـ
غير أن نفسه المرهفة النقية لا تطيب أن تتغذى بشيء ينازع فيه الورع ، حيث يختلج في صدره عدم وجود القائمين على الأوقاف على الوجه الأكمل ، فلذلك هان عليه ترك أكل فاكهة الشام ، وهي بستان الفواكه ومعدنها ، ورضي أن يقيم صلبه ويسد رمقه بما يرسل به أبواه من كعك يابس وتين حوراني ، أو خبز ما يكفيه جمعة فيأكله ، ولا يأكل سوى لون واحد من الإدام دسا أو خلا أو زيتا.
وحكى اليافعي أنه عوتب في عدم والتزوج وقيل له : هو سنة كبيرة ، ولم يبق عليك من السنة إلا هو ، وكذلك محاسن فقال : أخفا أن أتى بسنة وأدخل في محرمات كثيرة.
أما عبادته فقد قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
ومع هذا كان النووي اشتغال في العبادة قال البدر بن الباقر ، وكان ـ، أي النووي ـكثير العبادة.
وقال تلميذه ابن العطار ، كان كثير التلاوة ، كثير الذكر لله ـ تعالى ـ
وقال القطب اليونيني : إنه كان كثير التلاوة للقرآن والذكر معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الآخرة من حال ترعرعه.
وقال ابن العطار : ذكر لنا صحابنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي الفاضل ـ نفع الله به في حياة الشيخ ـ رحمه الله ـ قال :
كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمه ، وهو يردد قوله تعالى " وقفوهم إنه مسئولون " مرارا بحزن وخشوع ، حتى حصل عندي من ذلك شيء والله أعلم.
وفي البداية والنهاية لابن كثير : وكان يصوم الدهر
وقال اليافعي : كان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصنيف.
صدعه بالحق وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
فمن صدعه بالحق ونصيحته وأمره بالمعروف ـ رحمه الله ـ هذه الرسالة التي أرسلها إلى نائب السلطنة بقول : " خدمة الشرع العلماء بدمشق المحروسة ينهون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أخذ عليهم العهد بتبليغ الشرع إلى المكلفين ، ونصيحة اله ـ تعالى ـ وكتابة ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولاة الأمر بتبليغهم شرائع الأحكام وإرشادهم إلى شعائر الإسلام ، بفعلها ونشرها … إلى أن قال مفندا قول من اعترض على ذلك :
فهذا المخذول مخطئ جاهل ، بل إن اعتقد هذا كان كافرا ـ لأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هو الحق والصواب الذي يجب على كل مكلف الانقياد له ، والمسارعة إلى قوله والشراح الصدر له ، ثم استدل على ذلك بقوله ـ تعالى ـ " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء : 65)
ويقوله ـ تعالى ـ " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " (النور : 51).
قال : وكل ما خالف سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو البدعة والضلالة والغباوة والجهالة والسفاهة والرذالة.
قال : بل هذه طريقة الكفار في مدافعة دين الإسلام :
" ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " (التوبة : 32).
قال : ويجب على ولي الأمر ـ وفقه الله ـ لطاعته إذا سمع هذا الزاعم الجاهل الضال الغاشم المتجاهل وغيره ممن يقول نحو هذا القول في مدافعة الحق الاغتارض على سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يؤديه تأديبا بليغا يزجر به هو وأمثاله ، ويشهر أمره لينكف أهل الجهالة والضلال عن مثل فعله.
قال : وليعلم أن المراد بالاستسقاء امتثال أمر الله ـ تعالى ـ والاقتداء برسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مصلحة فاخرة أو سعادة معجلة ومنه من الله تعالى يشكر على التوفيق لها ، أما نزول المطر فهو الله تعالى.
ليس المراد بالاستسقاء تيقن من تزول المطر ، فإن علم الغيب ، وإنزال الغيث وغيره من الكائنات إلى ربت العالمين إلى أن قال : وليعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة ، وهذا متيسر لا مانع منه لكن قال العلماء : يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ، ومصالحة الأعداء والصدقة ، وصيام ثلاثة أيام ، ويخرجون في اليوم الرابع صياما ، قال : وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط ، ولو ترك صح الاستقاء ، ومع هذا فهو هين لا كلفة فيه ، فإن معناه أن ولي الأمر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه أو ولي الأمر بأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين.
إلى أن قال : لا سيما وقد من الله ـ تعالى ـ ولهالحمد والنعمة على المسلمين ، بما وفق السلطان زاده الله فضلا وخيرا وتمكينا وعلوا ونصرا وإدامة ظاهرا على أعداء الدين وسائر المخالفين ، أمرا بالمعروف عن المنكرات مبطلا للمحاسن والخيرات ، بما فعله من إزالة هذا المنكر العظيم الفاحش الجسيم الذي لم يسبق إلى إزالته " ولينصرن الله من ينصره " (الحج : 40).
قال : فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير ، وهم راجون من فضل الله ـ تعالى ـ مسارعته إلى هذا المصلحة ولا تحصل بعفل أحاد الناس ، بل اجتماع الناس كلهم ، ومنهم العلماء والصالحون والصغار والضعفاء والمساكين والمضطرون.
قال : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" هل تنصرون وترزقون إلا بضعفاتكم "
والله يوفق الأمير لكل مكرمة ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ، ومصالح المسلمين ، والحمد لله رب العالمين وسلام على عبادة الذين اصطفى ، وصلى الله عليه وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين "
ولما وصلت الرسالة إلى ولي الأمر فعل ما أمره به ، ثم سقوا بعد ذلك بسبعة أيام سقيا عامة ، وترادفت أمطار كثيرة بعد أن حصل لكثير من الناس قنوط ، وسقيت كذلك في الوقت المذكور البلدان التي أمر فيها الوالي بإقامة الاستقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق
ومن ذلك ما ورد أن الظاهر بيبرس لما أراد قتال التتار بالشام أخذ الفتاوى من العلماء بجواز أخذ مال من الرعية يستنصر به على قتالهم ، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه.
فقال : هل بقي أحد .
فيقيل له : نعم بقي الشيخ محيي الدين النووي فطلبه فحضر.
فقاله له : اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع.
فال : ما سبب امتناعك ؟
فقال : أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير (بندقار) وليس له مال ، ثم من الله عليك وجعلك ملكا ، وسمعت أن عندك ألف مملوك ،كل مملوك له حياصة من الذهب وعندك مائتا جارية ، لكل جارية حق من الحلي ، فإذا أنفقت ذلك كله ، وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلا من الحوائص وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي ، أفتيتك بأخذ المال من الرعية ، فغضب الظاهر من كلامه.
وقال : أخرج من بلدي ـ يعني دمشق.
فقال : السمع والطاعة ، وخرج إلى نوى.
فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به ، فأعده إلى دمشق.
فرسم برجوعه ، فامتنع الشيخ
وقال : لا أدخلها والظاهر فيها ، فمات بعد شهر.
مكانة النووي عند علماء الشافعية
يقول الأستاذ عبد الغني الدقر :
هذا وقد أخذ النووي ـ رحمه الله ـ الفقه الشافعي عن كبار علماء عصره كما رأيت ذلك في شيوخه في الفقه ، وبفترة وجيزة حفظ الفقه وأتقنه، وعرف قواعده وأصوله ، وفهم مخابئه وألغازه ، وبرع في معرفة أدلته حتى عرف بذلك بين العامة والخاصة ، ثم قفز فتساوى مع شيوخة ، ولم بمض كبير وقت حتى كان أعلم علماء عصره وأحفظهم للمذهب وأتقنهم لأقوال علمائه ، وأعرفهم بعلم الخلاف وأحقهم بأن يكون : محرر المذهب.
وانتشر في الآفاق ، وتعلق الطلبة والعلماء بتأليفه ، فانتفعوا بها ، وما يزال الناس ينتفعون بكتبه ، ويؤثرونها ، وهاك طرفا مما قاله العلماء في فقهه.
يقول الإسنوي في طبقاته : وهو ـ أي النووي ـ محرر المذهب ، ومنقحه ومرتبه ، سار في الآفاق ذكره وعلا في العلم محله وقدره.
ويقول ابن كثير عنه : شيخ المذهب ، وكبير الفقهاء في زمانه.
ويقول الذهبي : وكان رأسا في معرفة المذهب.
ويقول قاضي صفد ـ محمد بن عبد الرحمن العثماني ـ في ترجمته من الطبقات الكبرى له عن النووي :
شيخ الإسلام ، بركة الطائفة الشافعية ، محيي المذهب ومنقحة ، ومن استقر العمل بين الفقهاء على ما يرجحه.
ويقول الشهاب أبو العباس بن الهائم في مقدمة البحر العجاج شرح المنهاج :
الإمام العلامة الحافظ الفقيه النبيل محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه.
ويقول تلميذه ابن العطار : كان حافظا للمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم وما اشتهر من ذلك جميعه وما هجر سالكا في كلها طريقة السلف.
إلى أن قال : وقد يختلف قول الننوي قليلا في كتاب من كتبه عن كتاب فالظاهر أن المرجح هو آخر أقواله ، لأن القاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم.
شيوخه وتلامذته رحمهم الله
شيوخه :
في الفقه : تاج الدين الفزاري المعروف بالفركاح الكمال إسحاق المغربي عبد الرحمن بن نوح ثم عمر بن أسعد الأربلي ـ أبو الحسن سلام بن الحسن الأربلي.
في الحديث : إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي ثم المصري ثم الدمشقي ـ أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مضر الواسطي ـ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد ـ الرضى بن البرهان ـ عبدالعزيز بن محمد بن عبد المسحن الأنصاري.
في علم الأصول : القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي.
في النحو واللغة : أحمد بن سالم المصري ـ ابن مالك ـ الفخر المالكي.
تلامذته :
قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
يقول تلميذه ابن العطار وسمع منه خلق كثير من العلماء والحفاظ والصدور والرؤساء وتخرج به خلق كثير من الفقهاء وسار علمه وفتاويه في الآفاق .. الخ.
ودونك بعضا من تلاميذه :
منهم خادمة العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي عرف بابن العطار ، الذي كان لشدة ملازمته له وتحققه به يقال له " مختصر النووي ".
يقول ابن العطار : وكان رحمه الله رفيقا بين ، شفيقا علي ، لا يمكن أحدا من خدمته غيري ، على جهد مني في طلب ذلك منه ، مع مراقبته لي ـ رضي الله عنه ـ في حركاتي وسكناتي ، ولطفه بي في جميع ذلك ، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأدبه لي في كل شيء حتى الخطرات وأعجز عن حصر ذلك.
وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ضبطا واتقانا ، وأذن لي ـ رضي الله عنه ، في إصلاح ما يقع لي من تصانيفه ، فأصلحت بحضرته اشياء فكتبه بخطه ، وأقرني عليه ، ودفع إلى ورقة بعده الكتب التي كان يكتب منها ويصنف بخطه وقال لي : إذا انتقلت إلى الله ـ تعالى ـ فأتمم شرح المهذب من هذه الكتب ، فلم يقدر ذلك لي ، وكانت مدة صحبتي له مقتصرا عليه دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها بيسير إلى حين وفاته ـ أي نحو ست سنين ـ.
وممن أخذ عنه الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد ابن إبراهيم بن مصعب والشمس محمد بن أبي بار بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن النقيب والبدر محمد بن إبراهيم بنسعد الله بن جماعة.
والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مزهر الأنصاري الدمشقي المقري وشهاب الدين أحمد م\بن محمد بن عباس بن جعوان.
والفقيه المقري أبو العباس أحمد الضرير الواسطي الملقب بالجلال والنجم إسماعيل بن غبراهيم بن سالم بن الخباز.
مصنفاته رحمه الله
قال الأستاذ : أحمد عبد العزيز قاسم :
لم يمض على الإمام النووي كبير وقت في الطلب حتى أحس في نفسه أهلية التأليف فشرع في الإسهام بالمؤلفات النافعة ابتداءا من عام ستين وستمائة تلبية لما قرره أهل العلم حيث ندبوا لطالب أن يشتغل بالتصنيف إذا تأهل له ، فقد قال الحافظ ابن الصلاح في النوع الثامن والعشرين نقلا عن الخطيب ما نصه :
" وليشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إذا استعد لذل وتأهل له ، فإنه يثبت الحفظ ويزكي القلب ويشخذ الطبع ، ويحيد البيان ، ويكشف الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وما يمهر في علم الحديث ويقف على غوامضه ويستبين الخفي من فوائده غلا من فعل ذلك ".
وهذا ما فعله صاحبنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه كما قال الجمال الإسنوي ـ رحمه اله تعالى :
لما تأهل للنظر والتحصيل رأى في المسارعة إلى الخير أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفا ينتفع به الناظر فيه ، فجلع تصنيفه تحصيلا ، وتحصيله تصينفا قال : وهو غرض صحيح ، وقصد جميل قال ولوى ذلك لم يتيسر له من التصنيف ما تيسر له "
والإسنوي يشير بهذا إلى كثرة مؤلفاته ، التي عجت به (المكتبات ، وحققت رغة أولي الرغبات ، ولا ريب فقد أربت مؤلفاته على الخمسين مؤلفا ، هذا ما ذكر منها ولعل ما لم يذكر منها أكثر ، وقد قيل : إن تصنيفه بلغ كل يوم كراستين أو أكثر.
فقد حكى عنه تلميذه ابن العطار أنه أمره ببيع نحو ألف كراسة كان قد كتبها بخطه بعد أن يقف على غسلها في الوراقة وخوفه إن خالف أمره ، قال : فما أمكنني إلا طاعته وغلى الآن في قلبي حسرات.
مؤلفاته في الحديث :
شرح مسلم (بالمنهاج شرح صيحي مسلم بن الحجاج)
ـ رياض الصالحين ـ الأربعين النووية :
ـ خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام
ـ شرح البخاري ـ كتب منه جزءا يسيرا ولم يستكمله.
ـ الأذكار المسمى بـ " حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار"
وفي علوم الحديث الإرشاد ، والتقريب والإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات.
في الفقه : روضة الطالبين ـ المجموع شرح المهذب ولم يستكمله ، وقد أكمله السبكي والمطيعي ، والمنهاج والإيضاح والتحقيق.
التربية والسلوك : التبيان في أداب حملة القرآن وبستان العارفين.
التراجم والسير : تهذيب الأسماء واللغات ـ وطبقات الفقهاء.
اللغة : القسم الثاني من تهذيب الأسماء واللغات وتحرير التنبيه.
وقد حازت كتبه كلها القبول والرضا لدى الكافة والجميع من أهل العلم ينهل من معينها ، ولا ترى أحدا يأنف من الرجوع إليها ، بل أن من رجع إليها فقد عضد رأيه وقوى حجته ، وما من إنسان يقف على مؤلفاته إلا لهج بمدحه والثناء والترحم عليه ، جزاء خدمته للعلم وأهله بتلك المصنفات المتقنة ، فرحمه الله رحمة واسعة.
وفاته رحمه الله وما قيل في رثائه
وكما كان حظ إمامنا النووي من الدنيا قليلا ، فلم ينل منها ولم تنل منه ، وكانت كلها للعم والعبادة والتصنيف والزهادة ، كذلك كان بقاؤه في الدنيا قليلا ،فلم يعمر فيها طويلا ولم يبن الدور و سكن القصور ، وإنما عاش على الكفاف والعفاف وسط الكتب وفي مدارس العلم الشرعي يفيد ويستفيد إلى أن أدركته منيته ولم يتتحقق أمنيته ولم يشبع نهمته من العلم النافع والعمل الصالح ،وكان أماله في التصنيف والإفادة أطول من سنى عمره ، فلم يستكمل كثيرا من الكتب التي شرع فيها وخاصة المجموع شرح المهذب ، ومن أكمله لم يبلغ علمه وإتقانه وإحسانه ، فرحم الله الجميع ، ولا غرو في ذلك ، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرفع درجة إمامنا النووي فوق كثير من خلقه ،وأن ينفعه بما ترك من علم نافع وسلامة سريرة ، وحسن سيرة.
قال ابن العطار : فبلغني مرضه ، فتوجهت من دمشق لعبادته ، فسر بذلك ، ثم أمرني بالرجوع إلى أهلي ، فودعته بعد ما أن أشرف على العافية في يوم السبت العشرين من رجب فلما كانت ليلة الثلاثة في الرابع والعشرين منه سنة ست وسبعين وتسمائة للهجرة انتقل إلى جوار ربه ـ رحمه الله تعالى ـ
قال ابن العطار : وكان قبل قوله أذن لي في السفر بأيام يسيرة ، أرمل إليه فقير إبريقا فقبله وقال : قد أرسل إلى فقير آخلا زنبيلا ، قال : وهذا إبريق وذلك ألة السفر.
وقال التاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى ونقله السخاوي :
إنه قبل ظهوره إلى نوى رد الكتب المستعارة من الأوقاف جميعها.
وحكى اللخمي عن غير واحد من العلماء بدمشق أنه لما خرج منها إلى نوى خرج معه جماعة العلماء وغيرهم لظاهر دمشق ، وسألوه متى الاجتماع ؟ فقال : بعد مائتي سنة فعلموا أنه عني القيامة.
وقال القطب اليونيني : ولما وصل الخبر بوفاته لدمشق توجه قاضي القضاة عز تالدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة على قبره.
يقول الذهبي : ورثاه غير واحد يبلغون عشرون نفسا بأكثر من ستمائة بيت.
قممن رثاء الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم من مصعب ، وأول قصيدته
أكتم حزني والمدامع تبديه لفقد امرئ كل البرية تبكيه
وممن رثاه الأديب المحدث أبو الحسن على بن إبراهيم بن المظفر الكندي ، وأول مرثيته :
لهفي عليه سيدا وحصوار سندا لأعلام الهدى وظهيرا
تعدادها واحد وثلاثون بيتا أولها :
رية محيي الدين قد عمت الورى فلست ترى إلا حزينا مفكرا
وممن رثاه بقصيدة تعدادها عشرة ابيات تلميذه الفقيه المقرئ أبو العباس أحمد الضرير الواسطحي الملقب بالخلال وأولها :
لقد ذهب الحبر الجليل الموفق وعدنا حيارى والدموع تدفق
وممن رثاه بعض المحبين ـ كما يقول ابن العطار ـ بقصيدة تعدادها أربعون بيتا أولها :
وجدت عليك شرائع الإسلام أسفا يلازمها مدى الأيام
انتهى إلى هذا الحد ما جمعناه من ترجمة إمامنا النووي عليه رحمة ربنا العلي والله يوفقنا للتأسي بهؤلاء الأعلام ويجمعنا وإياهم في دار السلام وصلى الله على محمد وآله وصحيه وسلم تسليما.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire